جدلية الصعود والهبوط: استراتيجيات «حزب الله» القتالية في سوريا (3-3)

تناولنا في الجزءين السابقين من الدراسة أسباب دخول حزب الله للحرب في سوريا، كما تطرقنا إلى الانعكاسات العسكرية والبشرية التي أصابت الحزب جراء هذا التدخل، وفي هذا الجزء الثالث، نتناول أثر الحرب على السلوك القتالي للحزب، فضلًا عن تأثير ذلك على أدوات قوته الناعمة ووضعيته الاقتصادية.

الخبرات القتالية الجديدة
من المؤكد أن خوض حزب
الله القتال إلى جوار النظام السوري ساعده في اكتساب خبرات قتالية جديدة، ففي
الماضي، كان الحزب يتبنى استراتيجية دفاعية، تضمنت الصمود على الأرض، وإطالة أمد
الحرب لأطول فترة ممكنة؛ من أجل منع إسرائيل من تحقيق أي تقدم بري على الأرض،
إضافة إلى التأثير على معنويات إسرائيل القتالية من خلال بث روح اليأس بين
مقاتليها نتيجة الفشل في تحقيق أي تقدم ضد الحزب، على عكس ما كان مخططًا له قبل
الحرب.
ويعتبر حزب الله صموده ضد
أي حرب إسرائيلية انتصارًا له، بغض النظر عن عدد قتلاه، ويرجع ذلك إلى إدراك الحزب
أن أي حرب إسرائيلية تهدف ليس فقط لتحقيق أضرار للحزب، وإنما أيضًا لتجريده من
قوته العسكرية والقضاء عليها تمامًا.
وفي سوريا، تغيرت
استراتيجية الحزب القتالية، فتبنى تكتيكًا هجوميًّا بهدف السيطرة على أراضٍ جديدة،
قبل أن يصبح هدفه إبقاء نفوذه عليها لفترات زمنية طويلة، كما اكتسب عناصر الحزب
خبرة الهجوم على مناطق سكنية مكتظة بالسكان، والاندماج في قتال شوارع مع المجموعات
المناوئة لهم؛ إذ تحقق ذلك عام 2013 في مدينة القصير بريف حمص، وفي مدينة الزبداني
بريف دمشق عام 2015، التي حاصرتها قوات الحزب بالتعاون مع قوات النظام السوري، قبل
أن يتمكنا من السيطرة على المدينتين.
ولا يمكننا أن نغفل الخبرة التي اكتسبها مقاتلو الحزب بمشاركتهم في معارك تحوي مدنها تضاريسًا غير مدروسة بالنسبة لمقاتليه، فعلى سبيل المثال، خاض الحزب حروبًا في مناطق سكنية مثل معركة القصير، كما قاتل الحزب في جبال القلمون وصحراء تدمر، ما ساهم في ترسيخ فكرة المبادرة بالهجوم ونقل المعركة إلى أرض الخصم، بدلًا من المكوث في الثكنات؛ من أجل ردع أي اعتداء خارجي.

اكتسب الحزب خبرة لشن
عددٍ من المعارك في آن واحد، في أماكن متباعدة جغرافيًّا، بعد منح كل مجموعة
مبررات مختلفة، فالمجموعة التي كانت تقاتل في دمشق تم تعبئتها من أجل الدفاع عن
مرقد السيدة زينب الذي ادعي الحزب سعي المعارضة السورية لتدميره.
كما امتلكت المجموعات
التي قاتلت في مدينتي القصير والزبداني دافع هزيمة الإرهابيين -وفق رؤية الحزب- في
سوريا حتى لا تنتقل المعركة إلى الداخل اللبناني، إضافة إلى ما سبق، استفاد الحزب
من القتال في سوريا، حيث عمق من خبرته الخاصة بقتال الشوارع، ما يمنحه ميزة إضافية
في مواجهة أي جيش نظامي.
وأضاف قتال الحزب إلى
جوار القوات الروسية اطلاعه على آخر ما وصلت إليه التكنولوجيا العسكرية، إضافة إلى
استفادته من كيفية تطبيق المعلومات الاستخبارية بشكل يخدم الخطط الهجومية، كما
استفاد الحزب من «سياسة تدوير المقاتلين» التي فرضتها عليه ظروف الحرب الطويلة
بهدف تجديد الروح في مقاتليه، ووضع حد لليأس المتخلل إلى نفوسهم.
الخسائر الاقتصادية
لا يمكننا أن نحصل على
أرقام محددة لخسائر الحزب المالية في سوريا، بسبب انغلاقية الحزب على نفسه،
واعتباره ذلك أمرًا من أمور السيادة التي لا يجب أن تكشف على الملأ، لما قد تسببه
من تأثير سلبي ليس فقط على مقاتليه، ولكن أيضًا على حاضنته الشعبية ومدى الدعم
الذي تقدمه له.
وساهم تدخل الحزب العسكري
في سوريا في ترسخ تهديده للدول المجاورة، ما دفع عددًا من الدول لفرض عقوبات
اقتصادية عليه بهدف تجفيف مصادر تمويله التي تعتمد بشكل رئيسي على الدعم الإيراني،
إضافة إلى تجارة المخدرات التي يقوم بها الحزب في أوروبا وأمريكا اللاتينية.
ويعد انخفاض سعر البترول
عاملًا رئيسيًّا في تخفيض الدعم الإيراني لحزب الله، ما دفع الأخير إلى تكثيف
تجارته غير المشروعة بالمخدرات، ليس فقط لتعويض نقص مصادر التمويل، ولكن لتغطية
نفقات ورواتب مقاتليه، وكان ذلك أحد أسباب اتجاه الولايات المتحدة لفرض عقوبات على
الحزب بهدف تجفيف موارده المالية؛ ففي أكتوبر 2017 أقر مجلس النواب الأمريكي
قرارًا يجيز فرض عقوبات على أي كيانات يثبت دعمها لحزب الله بالمال أو بالسلاح.
وفي ضوء هذا القرار، فرضت
الخزانة الأمريكية، في 3 فبراير 2018، عقوبات على 6 أفراد و7 كيانات بتهمة تمويل
حزب الله، وشمل القرار تجميد أصول وممتلكات الأشخاص المشمولين بالقرار، إضافة إلى
منع تعامل الأمريكيين معهم.
وتسعى الولايات المتحدة
من هذا القرار إلى تكبيد الحزب أكبر الخسائر المالية، مستغلة بذلك حاجته المالية
لتعويض إنفاقه العسكري في سوريا، ويهدف هذا القرار أيضًا إلى إجبار الحزب على
تخفيض رواتب مقاتليه في سوريا، ما سيحد من قدرته على استقطاب وتجنيد المزيد من
المقاتلين لأجل حروبه التوسعية في المنطقة.

القوة الناعمة
انعكست الحرب في سوريا
على قوة حزب الله الناعمة في المنطقة، فقد اعتاد الحزب تقديم نفسه كقوة ممانعة لإسرائيل
منذ نشأته في عام 1982 لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، ومنذ ذلك
الحين، لم يكن للحزب هدف إلا الحد من التأثير الإسرائيلي على سيادة القرار
اللبناني الداخلي.
وكانت شعارات الحزب
ودعاواه إلى مواجهة إسرائيل، وإكثاره من استخدام ألفاظ مثل «الاحتلال» أو
«الصهيونية»، سببًا في تكاتف الرأي العام العربي خلفه، ووصل التأييد الشعبي العربي
للحزب قمته في أعقاب الحرب التي خاضها الأخير ضد إسرائيل عام 2006، حيث حاول
استخدامها لتقديم نفسه كمدافع عن الأمة العربية بأكملها.
لكن صورة الحزب تأثرت
بالسلب بعد تدخله في القتال بسوريا؛ حيث لم ينجح في دفع المذهبية بعيدًا عن أفعاله
القتالية، رغم العوامل السياسية التي قادته لهذا التدخل، ولم تأت محاولاته
التبريرية بتجريف بوصلته بعيدًا عن إسرائيل ثمارها المرغوبة، إذ ترسخت تبعية الحزب
لإيران أكثر من كونه مقاومًا لإسرائيل، خاصة بعد تصريح الأمين العام للحزب «حسن
نصرالله» بأن طاعة ولاية الفقيه تتجاوز الدستور اللبناني في أهميتها له.
وحاول الحزب إضفاء مبررات
دينية للحفاظ على ما تبقى من مكانته، فاستدعى مصطلح «القتال من أجل القدس» ليخاطب
العاطفة الدينية لشعوب المنطقة، حيث قال «نصرالله» في خطابه بذكرى يوم القدس في
يوليو 2015، إن «قتال الحزب في الزبداني هو من أجل تحرير القدس»، إلا أن ناشطين
أطلقوا هاشتاجًا مناوئًا لتصريحاته تحت اسم «القدس لا تمر بالزبداني».
وختامًا، يمكننا استنتاج أن المحاولات الغربية الهادفة إلى استنزاف الحزب حققت أهدافها في بعض النقاط، حيث فقد الحزب العديد من كوادره البشرية، واستنزفت موارده الاقتصادية، علاوة على تراجع تأثير قوته الناعمة في المنطقة، ما يعني أن الحزب بات وحيدًا في حالة نشوب أي حرب بينه وبين إسرائيل مستقبلًا، ولن يجد إلا دعم إيران والشيعة العرب فقط.

بالنظر إلى الدعم العربي
المقدم لحزب الله أثناء قتاله لإسرائيل، في يوليو 2006، سنجد أن الدول العربية لم
تقدم إلا الدعم الإعلامي لحزب الله من خلال جامعة الدول العربية التي أدانت
العدوان.
وبناء على هذا، غامر حزب
الله بدخوله الحرب في سوريا بأريحية تامة؛ لأنه يعلم جيدًا أن الدول العربية تقف
على الجانب المقابل له، ما يعني أنه لم يكن لديه شيء ليخسره في علاقته مع الدول
العربية، إلا دعم الشعوب التي عُزلت عنه بفعل أنشطته الطائفية، ونعني من ذلك أن
فقدان الحزب لدعم الخطاب الإعلامي العربي أجبر قوته الناعمة -الهادفة إلى التجنيد
والاستقطاب- على التراجع.
وحتى الآن، لم تظهر بوادر
أزمة لدى الحزب في تغطية نفقات جنوده ورواتبهم، وحتى إن اضطر تحت وطأة العقوبات
الدولية لتقليل رواتب مقاتليه، فإن ذلك وفقًا لرؤية الحزب سيكون أمرًا مؤقتًا؛ لأن
إيران ستعاود دعمه مرة أخرى في حالة انتهاء الحرب السورية لصالحها وتوفير نفقاتها
العسكرية في سوريا.
وفقًا للمؤشر العسكري،
نجد أن قوة الحزب العسكرية تعاظمت بغض النظر عن الأضرار الأخرى التي لحقت به، ورغم
أن تلاشي الجانب العقائدي في التجنيد، قد يجعل من اختراق الحزب أمرًا سهلًا لدى
الاستخبارات الأجنبية، فإنه من المتوقع أن يتخلى الحزب عن سياسة «التجنيد من أجل
سد العجز» بمجرد انتهاء الحرب في سوريا.
ولا يمكننا أن نغفل قدرة
الحزب في تشكيل خطر جدي لأي دولة من خلال امتلاكه أسلحة متطورة حصل عليها خلال
قتاله في سوريا، فصواريخ «ياخونت» الروسية بإمكانها تهديد حقول الغاز الإسرائيلية
في المتوسط، كما أن الصواريخ المضادة للطائرات التي يمتلكها الحزب بإمكانها أن
تشكل خطرًا جديًّا على الطيران الإسرائيلي.
ويؤكد مؤشر القوة
العسكرية أن خسائر الحزب البشرية وقوته الناعمة، يمكن تعويضها على المدى البعيد،
ما يفسر صعود الحزب عسكريًّا بعد تدخله في سوريا.
وفي نهاية المطاف، يتوقف
مستقبل الحزب في سوريا على نتيجة الحرب، حيث إن مقاتلي الحزب لن يتركوا سوريا إلا
في حالة تحقيق النظام السوري نصرًا مطلقًا على المعارضة السورية المسلحة، وهو أمر
بعيد المنال في الوقت الراهن بسبب دعم عدد من القوى الدولية لعدد من الفصائل المسلحة،
حيث تدعم تركيا ما يعرف بـ«الجيش السوري الحر» في الشمال السوري، في حين تدعم
الولايات المتحدة «الأكراد»؛ لتضمن لنفسها دورًا في صياغة المستقبل السوري، ما
يجعل من فكرة الحسم العسكري فكرة صعبة التحقيق في الوقت الحالي.
المراجع:
1-الجزيرة نت، حزب الله
يتاجر بالكوكايين بأمريكا اللاتينية وأوروبا،http://www.aljazeera.net/news/presstour/2016/6/9/%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D8%AC%D8%B1-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D9%83%D8%A7%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A8%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7
5- الجزيرة نت، نصرالله:
طريق القدس يمر بالقلمون والزبداني،http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/7/10/%D9%86%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3-%D9%8A%D9%85%D8%B1-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%84%D9%85%D9%88%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B2%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A