شكلت المقاطع المصورة الجديدة التي بثتها عناصر «داعش» حول تجديد مبايعتهم لـ«أبوبكر البغدادي» نقطة جدلية تتعلق بماهية الوجود الحقيقي للتنظيم، والكيفية التي استطاع من خلالها إعادة نشر أتباعه في أكثر من موقع جغرافي.
وتعددت المواقع التي أعلنت ولاءها للبغدادي بين ولاية ليبيا وشرق آسيا وغرب أفريقيا وخراسان وغيرها، ولكن اللافت في تلك الولايات هو ظهور «أذربيجان» كمتغير حديث نسبيًّا على الخريطة الراديكالية الإسلاموية.
مبايعة أذربيجان
من خلال فيديو قصير لا تتعدى مدته الثلاث دقائق ظهر 3 رجال ملثمين ومتشحين بالسواد؛ ليعلنوا تأسيس ولاية أو فرع للخلافة المزعومة داخل دولة أذربيجان، إلى جانب مبايعتهم زعيم تنظيم داعش «البغدادي»، والدعوة إلى ما سمّوه التوحد تحت لواء جماعته.
بينما عملت العناصر الداعشية التي ظهرت في الفيديو على إبراز أمير الولاية الأذرية، وقائد المجموعة الداعشية في البلاد ويطلق على نفسه اسم «أبويوسف الأذري»، وتحدث الأذري عن البغدادي معتبرًا إياه الخليفة والملهم، متوعدًا الدول الغربية التي تحارب التنظيم بالهلاك والانتقام، وبالأخص مسؤولي روسيا وإيران، والمتعاونون معهم؛ إذ تضَمّن الفيديو بعض اللقطات لـ«سيرجي لافروف» وزير الخارجية الروسية، جاء معها كلمات «أبويوسف» عن الانتقام من تلك الدول المناوئة للجماعة.
وعلى الرغم من ظهور العناصر الأذرية بالأسلحة المحمولة على الكتف والبنادق، ولكنهم لم يكونوا على درجة التسليح نفسها التي ظهر بها أقرانهم في ليبيا من عتاد عسكري وسيارات دفع رباعي.
الواقعية الأذرية
وأذربيجان هي دولة تقع في منطقة القوقاز على الحدود بين القارة الآسيوية والأوروبية –فيما يعرف بمنطقة أوراسيا- وتحدها الكثير من الدول، مثل روسيا وجورجيا وتركيا وإيران، ويتضح من ذلك توسطها منطقة مهمة وساخنة من العالم، واشتراكها مع إيران في بحر قزوين، إلى جانب ارتباطها بتركيا عن طريق اللغة؛ إذ يتحدث الشعب اللغة التركية أو الأذرية المشتقة منها.
ولكن ما الروابط السابقة التي تجمع الدولة مع التنظيم الإرهابي؟ ففي 2014 بدأ اسم الدولة يتردد مقرونًا بداعش بعد الأنباء المتواترة عن عدد المنضمين للمجموعة، وما نسبة مواطني أذربيجان بداخلهم؟ فطبقًا لتقرير معلوماتي قدمه رئيس جهاز الاستخبارات في البلاد، مدحت جولييف في سبتمبر 2017 تمت الإشارة إلى وجود 900 شخص من مواطني البلاد قد انضموا للتنظيم منذ أوائل نشأته في سوريا والعراق، أي عقب الظهور الشهير للبغدادي في يوليو 2014.
كما أكد جولييف أن الدولة لديها معلومات تتعلق بمقتل 300 شخص منهم في العراق، وأنها تجري التحريات اللازمة في هذا الإطار، إضافة إلى قيامها بإسقاط جنسية العديد من هؤلاء الأشخاص، ولكنها لاتزال تتخوف من باقي العناصر غير المعروف بعد حقيقة وفاتهم من حياتهم بعد المعارك الأخيرة.
الفرص الداخلية
ترتبط الإحصائية الماضية بالروابط الناشئة بين التنظيم وداعش خارج حدود البلاد، ولكن ما فرصه بالداخل؟ وما العوامل التي من المحتمل أن تكون قد أسهمت في وجود تلك المجموعة التي أعلنت تأسيس الولاية داخل البلاد، ومفردات الجاذبية التي وفرت أرضية للوجود، إذا سلّمنا بحقيقة الفيديو من الأساس، وأنه بالفعل تم بثه من الداخل؟
فالدولة النفطية الواقعة بمنطقة القوقاز حصلت على استقلالها من الاتحاد السوفييتي بعد تفككه أوائل التسعينيات، وأصابها من الاضطراب والتشدد بعضٌ مما أصاب دول الجوار كالشيشان وأرمينيا وإنغوشيا، ولكن لم يبلغ التشدد بها إلى الدرجة ذاتها التي وصل بها الآخرين، قياسًا بالتطرف الديني والهجمات المدمية التي وقعت بالدول المجاورة.
فخلال مراحل تلك الانفصال تكونت شبكات سلفية متشددة لمجابهة روسيا، وارتبطت أحيانًا بعلاقات مع تنظيم القاعدة، وهذا يفسر بعضًا من الأسباب التي شكلت مداخل تلك العقيدة لدى هذا العدد الكبير الذي انضم للتنظيم.
للمزيد حول مدخلية التشدد في دول القوقاز.. اضغط هنا
وحول شبكات السلفية في البلاد ذكرت دراسة بعنوان «تصاعد السلفية المسلحة في أذربيجان وآثارها الإقليمية» تم نشرها بمعهد سياسات الشرق الأوسط، أن بدايات نشأة التيار التكفيري في البلاد كانت نتيجة لعوامل خارجية وأطراف دولية تدخلت لزرع ذلك بالبلاد، ولكنه تنامى داخليًّا؛ مما سيشكل مستقبلًا أرض خصبة لمجموعات التطرف.
إذ تعتقد الدراسة أن الدولة لم تواجه التيار المتشدد في بدايته بقدر من الحزم؛: بسبب تخوفها من السلطات التركية ورد فعلها إلى جانب الفساد النسبي الذي تتسم به أجهزة الدولة ما مكن الآخرون من التنامي والصعود.
ومن ذلك يتضح أن الأيديولوجية التكفيرية ذات رجعية قديمة بالبلاد وليست وليدة اللحظة؛ ما يعني أن داعش وجد ما يعينه في هذه الدولة، وخصوصًا أن أطرافها القوقازية مشتعلة ويتصاعد بها تجارة الأسلحة وتناقلها وتنفيذ الهجمات الإرهابية المختلفة.
وفي هذا الإطار، أصدرت منظمة السياسة الخضراء في 2015 دراسة تتنبأ فيها بأن أذربيجان ستكون من أكثر الدول المرجح احتضانها لداعش في المستقبل، فطبقًا للورقة البحثية أضحت البيئة الجيوسياسية بالبلاد ملائمة لتنامي الراديكالية الإسلاموية؛ إذ تقلل الدراسة من الآثار الجدية للقمع الذي تمارسه الحكومة لمكافحة الإرهاب والجماعات التكفيرية؛ إذ ترى أن الحبس والاعتقالات لن يغيرا من الأمر في شيء، فلو تمكن التنظيم من الوجود سيتنامى التطرف في البلاد؛ لأن الدولة لا تحاربه بشكل فكري ومنهجي، إنما عسكريًّا فقط، وبالرغم مما تدعيه الدولة من تبني النظام العلماني فإن الدراسة تدفع بعدم واقعية ذلك في التطبيق السياسي الحقيقي في البلاد، كما لفتت الدراسة إلى التقارب السياسي والجغرافي للدولة مع تركيا، ودور ذلك في تصدير العناصر الداعشية المتطرفة إلى الدولة.