ad a b
ad ad ad

«السمكة في الصحراء».. استراتيجية ترسم مستقبل داعش بعد انهيار صفوفه

الجمعة 09/نوفمبر/2018 - 12:11 م
علي عبدالعال
طباعة

منذ دحره من مدينتي «الموصل» العراقية و«الرقّة» السورية، اللتين كان يعتبرهما «داعش» بمثابة عاصمتين له، والتساؤلات لا تتوقف حول مصير ومستقبل التنظيم الإرهابي، خاصةً بعد تكبده خسائر فادحة في الأرواح والمعدات في تلك الدول.


ما مدى قوة التنظيم الحالية بعد تلقيه عددًا من الضربات الموجعة في معاقله الرئيسية؟ هل لايزال قادرًا على التوسع؟ هل لاتزال أيديولوجيته الجهادية تلقى الرواج ذاته؟ ما مصير الآلاف من المقاتلين؟ وماذا عن الخلايا النائمة؟ هذه ضمن عدد من التساؤلات؛ تهدف إلى الوقوف على مستقبل هذا التنظيم المسلح الذي شغل العالم من مشرقه إلى مغربه.

«السمكة في الصحراء»..

4 سنوات بين التمدد والانحسار

تبدو التطورات المحيطة بظهور وانتشار «داعش» شديدة التسارع، فالتنظيم الذي انبثق من بقايا تنظيم «القاعدة» في العراق، بدأ انتشاره في أنحاء المنطقة العربية مطلع عام 2014، حين اجتاح مدينة الفلوجة العراقية وأجزاءً من مدينة الرمادي «وسط العراق» عاصمة محافظة الأنبار، إلى أن استولى على مدينة الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، في يونيو 2014، وهناك من مسجدها الكبير أعلن زعيمه، أبوبكر البغدادي، قيام ما يُسمى «دولة الخلافة»، وهو إعلان لم يهز المنطقة وحدها بل العالم أجمع.

 

وفي سوريا، استولى التنظيم على مدينة الرقة بعد أن طرد منها فصائل المعارضة المتنافسة، واستولى على مدن عديدة غيرها، فقد حقق «داعش» في أقل من 60 يومًا مكاسب سريعة صيف العام 2014.


ولم يقتصر وجوده على سوريا والعراق، بل انتشر في أكثر من 12 بلدًا من بلدان العالم بعد مبايعة العديد من التنظيمات المسلحة له، كما جلب التنظيم مجموعات من المقاتلين الأجانب، معظمهم من الشباب الأوروبي والآسيوي، ومن روسيا، وغيرهم من الأجانب الذين تبنوا فكره.


للمزيد: تراجع ملحوظ لـ«داعش» في دير الزور

 

وتسارعت الأحداث المصاحبة لتوسعاته في المناطق المختلفة متوجة بتشكيل التحالف الدولي؛ لمحاربة التنظيم، والذي شارك فيه أكثر من 67 دولة، بما فيها دول كبرى مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وأستراليا، فضلًا عن القوات العراقية والكردية وغيرهم.


وعقب 1095 يومًا من القتال المتواصل، أعلن مكتب المحاسبة الحكومي الأمريكي، أن التحالف شنَّ أكثر من 23 ألف غارة على العراق وسوريا بكلفة وصلت إلى 13.6 مليار دولار.


وشنَّ التحالف بقيادة واشنطن 13 ألف غارة جوية في العراق، و10 آلاف غارة جوية في سوريا، كما نجح مع القوات العراقية في استعادة 75من مناطق سيطرة داعش في العراق، أبرزها مدينة الموصل، و58من مناطق سيطرة داعش في سوريا، أبرزها مدينة الرقة، وفي يوم 9 ديسمبر2017 أعلن رئيس الوزراء العراقي حينها، حيدر العبادي، سيطرة قواته «بشكل كامل» على الحدود السورية العراقية، مؤكدًا «انتهاء الحرب» ضد التنظيم بعدما حققت أهدافها.

«السمكة في الصحراء»..

هزائم متلاحقة

لا يختلف اثنان على أن الضربات الجوية والبرية التي وُجهت لداعش كانت قاسية، وأدّت إلى استنزاف قدراته العسكرية والمادية والبشرية؛ بسبب التفوق الجوي، والإمكانيات، والقدرات العسكرية لقوات التحالف الدولي.


نتائج هذه الضربات العسكرية جعلت التنظيم يفقد معظم الأراضي التي كان يستحوذ عليها في العراق وسوريا.. ففي العراق بدأ بخسارة المدن المدينة تلو الأخرى، بدءًا من تكريت في محافظة صلاح الدين، ثم سنجار وبيجي النفطية، والرمادي، والفلوجة وكبيسة وهيت والقيارة، وصولًا إلى الموصل وتلعفر والشرقاط والحويجة، ولم يعد مقاتلو داعش يحتفظون بأي مدينة أو بلدة في شمالي العراق، ولم يتبق له سوى جيوب ومخابئ وبعض مناطق هنا وهناك، تزامنًا مع محاولة طرده من قِبل قوات محلية وأخرى إقليمية ودولية، إلا أنه حاليًّا أصبح محاصرًا من جهات مختلفة ويقاتل على جبهات عديدة؛ وينفذ انسحابات من بعض الأماكن، ما قد يستنزفه على المدى البعيد، ويحد من قدراته، عطفًا على تدمير منشآته الرئيسية لتجهيز وبناء الشاحنات المفخخة والانتحارية، وتم نسف مخابئ كبيرة للأسلحة ومستودعات الذخيرة.

 

وفي سوريا، وعلى وقع هجمات منفصلة قادها الجيش العربي السوري بدعم روسي، بات تنظيم داعش يسيطر على 5% فقط من مساحة البلاد مقابل 33% كانت في السابق.


اقتصاديًّا.. فقد التنظيم الكثير من موارده المالية وخاصة العائدات النفطية التي خسرها؛ بسبب فقده جميع حقول النفط التي كان يسيطر عليها، كما فقد عوائد الضرائب والمصادرات وغيرها من الأنشطة، وتم تقليص تمويله الدولي بالعديد من الطرق، فإلى جانب الحملة العسكرية في كُلٍ من العراق وسوريا، كان التحالف الدولي قد تعاهد بمواجهة البنية التحتية المالية والاقتصادية للتنظيم وعرقلتها، والتصدي لتدفق المقاتلين الأجانب عبر الحدود، ومواجهة الدعاية الإعلامية لداعش.


تحول يفرضه الواقع

غير أن الهزائم المتلاحقة التي تلقاها التنظيم لن تضع -على الأرجححدًا لوجوده، لكن ستدخله في تحول نوعي ، حسب مراقبين، وتنقله من وجود علني ومجسد حسبما كان عليه، إلى وجود سري، يأخذ أشكالًا عديدة، منهاالخلايا النائمة، والمجموعات السرية، والذئاب المنفردة، وهذه كانت موجودة لديه بالفعل لكنها قد تصير شكله الرئيسي على الأقل حتى تمر موجة التحشيد الدولي تجاهه، ومن خلال هذه الخطط سيحاول التنظيم المحافظة على وجوده، وسيسعى عناصره إلى الاختباء في الأماكن التي يسعهم فيها ذلك.


فقد أظهرت دراسات سابقة أُجريت على حركات وتنظيمات جهادية أن هزيمة تنظيم مسلح خاصة التنظيمات ذات الطابع الديني أو الأيديولوجي-نادرًا ما تفضي إلى انهيار التنظيم أو اختفائه.. والواقع والتاريخ شاهدان على أن هذه التنظيمات لا يمكن القضاء عليها بشكل كامل، وخاصةً إذا تشظت وكان لها أتباع  في دول أخرى.


وتُبين الدراسات التي أُجريت على داعش نفسه ومنذ كان يُسمى بتنظيم «التوحيد والجهاد في العراق»، أن هذه الجماعة قادرة على تجاوز الخسائر، وإنتاج قيادات إذا خسرت قادتها، والعودة إلى مراحل مبكرة من العمل والتنظيم والمباغتة.


إن التحول المرتقب لدى التنظيم يستند إلى عوامل واقعية سيكون لها دور حاسم في طبيعة هذا التحول.. فنحن أمام تنظيم وظيفي وأيديولوجي، يعتمد على البنية الأمنية والعسكرية والدعوية، تديره وتخطط له شخصيات تعمل بطرق محكمة وفي سرية تامة، تماثل في تركيبتها ودورها أجهزة المخابرات، شخصيات لها «تاريخ» في إجادة مثل هذه الأعمال وتنفيذها في ظروف تكاد تكون مستحيلة؛ إذ سبق للتنظيم العمل طوال سنوات ماضية في ظروف أعقد كثيرًا من الظروف الحالية.


وقد أشارت عشرات التقارير والدراسات إلى الخلفية المخابراتية والعسكرية لقياداته وأغلبهم ضباط سابقين، كما أن تركيبة التنظيم السرية بما فيها من تعتيم على قياداته وأجهزته، وأغلب مصادر تمويله وتسليحه وعلاقاته، كلها عوامل مساعدة لتحول التنظيم إلى خلايا نائمة، ومجموعات تعمل وتنطلق من تحت الأرض.

 

وفقد «داعش» الآلاف من خيرة مقاتليه لكن قيادة التنظيم مازالت متماسكة -على ما يبدو-، وهي الآن تتصرف أشبه بـ«حكومة ظل» تدير بضعة آلاف من المقاتلين المنتشرين في مناطق بالعراق وسوريا، ولايزال زعيمه أبوبكر البغدادي طليقًا، وفشلت كل المحاولات للقضاء عليه، ومازالت خلاياه النائمة منتشرة في الكثير من البقاع والبلدان، لاسيما وأنّ داعش يُبقي على خلاياه في المناطق التي ينسحب منها، ويطلب من تلك الخلايا لاحقًا القيام بعمليات عسكرية خاطفة ومفاجئة.


وفي المستقبل القريب، لن يحتاج التنظيم إلى عدد كبير من المقاتلين كي يستأنف معركته من تحت الأرض، فالمقاتلون المخضرمون الموالون للتنظيم لديهم خبرة سابقة في الذوبان وسط السكان المحليين «مثل الملح في الماء» في انتظار اللحظة المناسبة؛ لإطلاق تمرد أو هجوم انتحاري أو لشنِّ حرب سرية منخفضة الكثافة، من داخل مناطق حضرية كثيفة السكان نسبيًّا.


وعلى الرغم من نزول داعش تحت الأرض سيؤدي إلى تراجع قدرته على تمويل نفسه من موارده الحالية، ولكن هذا لا يعنى أنه لن تنجح في الحصول على أموال، بل سيظل قادرًا على تنفيذ هجمات انتحارية، ووضع كمائن، وتنفيذ عمليات اغتيالات وقنص


ـ خطر الهجمات المسلحة والتفجيرات التي تستهدف الغرب أو الشرق لا يلوح في الأفق، ما يمكن أن يدفعنا إلى القول بأنها قد تتوقف بل ستتواصل لكن مصدرها لن يكون الرقة التي فقدت مكانتها بالنسبة للعقل المخطط في داعش كعاصمة مركزية.


ومن بين أخطر المواضيع التي تشغل بال المراقبين الدوليين هو مصير المقاتلين الأجانب الذين قدّر عددهم بـ30 ألف مقاتل، فهؤلاء الأجانب في التنظيم لم يكونوا بالضرورة مقاتلين، باستثناء الليبيين والتونسيين وبعض العناصر العربية وتلك القادمة من القوقاز، بل إن غالبيتهم كانوا يتولون الشق الإداري الذين توجهوا أكثر إلى تقديم الدعم الفني وتولوا قسم الأبحاث، وهو ما يدلل على أن الفرع المسؤول عن التخطيط للهجمات في الخارج لم يتأثر كثيرًا بالخسائر التي مني بها التنظيم.


السمكة في الصحراء

هناك فرضية أخرى، تذهب إلى أن انهيار «داعش» ربما يفضي إلى ظهور ما هو أعنف منها «الجيل الثاني من داعش» في ظلِّ التأزمات السياسية والطائفية والاقتصادية في المنطقة العربية، وفي ظلِّ حالة التشظي التي يتعرض لها التنظيم وضعف السيطرة المركزية لقياداته على الأطراف هنا وهناك، فكثير من عناصر التنظيم هربت بعيدًا إلى الصحراء، وخاصة في مناطق حوض نهر الفرات الصحراوية الشاسعة بسوريا؛ حيث يُعتقد أن زعيمهم أبوبكر البغدادي قد لجأ إليها فصارت المنطقة مأواهم وملاذهم الأخير في مثل هذا الظرف، وهو ما يعزز تلك الفرضية القائلة: بأن التنظيم قادرًا على إعادة إنتاج نفسه ولكن بصيغة أخرى وربما بمسمى جديد.


للمزيد: استراتيجية الخداع.. «داعش» يتخفى وراء تنظيمات صغيرة للعودة من جديد


ومن الجدير هنا استرجاع استراتيجية «سمكة الصحراء» التي أعلن عنها التنظيم عام 2015 كاستراتيجية عسكرية ينتهجها ويلجأ إليها، إذا اضطرته الظروف، وهي تقوم بالأساس على المراوغة، ونقل الصراع من مكان إلى آخر، وتنفيذ عمليات نوعية متزامنة، وتعتمد على انسحاب التنظيم من أماكن يتعرض فيها لضربات عنيفة وهجمات متتالية، إلى أماكن جديدة غير متوقعة من قِبل خصومه؛ ليُشكل بذلك منطقة نفوذ جديدة، يضمن فيها مزيدًا من الأتباع، ومزيدًا من الموارد المادية التي تساعده على استكمال أهدافه.


كان التنظيم قد كشف عن هذه الاستراتيجية في تقرير أصدره 2015 يستعرض فيه جهوده العسكرية؛ لمواجهة أعداءه في مختلف المناطق، واستوحى التنظيم هذه الاستراتيجية من حركة سمكة الرمال وهي إحدى الزواحفالتي تتنقل من مكان إلى مكان من خلال الغطس في الرمال؛ حيث تهرب من مكان لتظهر في مكان بعيدًا عن أعين أعدائها، وللبحث عن فرائس جديدة لها.


واعتماد مثل هذه النظريات ربما يضمن بقاءً مؤقتًا للتنظيم وتكيف مع كثرة الضربات التي يتلقاها، ففكرة كهذه تساعده على التأقلم في بيئات مختلفة وظروف مختلفة حتى ولو لوقت قليل، يعاود بعدها استحداث طرق جديدة ليظل باقيًا.


وعلى ما يبدو فقد اعتمد داعش هذه النظرية في الفترة الأخيرة في تنفيذ أهدافه وامتصاص شدة الضربات عليه، فهو ينسحب من مكان يتعرض فيه لهجمات أو يلقى ضربات عنيفة؛ ليخرج في مكان آخر غير متوقع من قِبل الخصم، كما سبق واستعمل هذا الأسلوب في الوصول إلى مناطق جديدة بعيدة عن المناطق التي يوجد فيها.


وفي ظلِّ تضييق الخناق على داعش وتطويقه في سوريا والعراق، فإن هناك مؤشرات توحي بأنّ التنظيم يوجّه سهامه نحو دول عربية جديدة، ومن المحتمل أن تكون تلك الدول، هي الواقعة جنوب سوريا.

"