يصدر عن مركز سيمو - باريس
ad a b
ad ad ad

تداعيات «الربيع العربي».. بُنى مدمرة واقتصادات هشّة

الجمعة 03/أغسطس/2018 - 12:25 م
صورة تعبيرية
صورة تعبيرية
محمود رشدي
طباعة
تُشكل منطقة الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا -خاصة الدول التي تعرضت لموجات ما عُرف بـ«الربيع العربي»- أكثر المناطق توترًا حول في العالم، فلا يكاد يمر يومًا دون أن نسمع عن انفجار عبوة ناسفة في منطقة ما، أو عدد من الضحايا والجرحى، ناهيك عن تدمير لبنى تحتية، وتأثيرات سلبية على قطاعات الإنتاج، إضافة للتأثيرات النفسية على الموارد البشرية من فقدان عوامل الأمان والحماية.

لذا أصدرت المؤسسات الاقتصادية العالمية تقارير تناولت بها التداعيات المباشرة، وغير المباشرة لحالة الصراع بالمنطقة، وعلى رأس تلك المؤسسات صندوق النقد الدولي.
معدلات التضخم الاقتصادي
معدلات التضخم الاقتصادي
وقد شهدت دول مثل سوريا واليمن وليبيا، زيادات حادة في معدلات التضخم الاقتصادي في آخر سبعة أعوام، كما أدَّت تلك الصراعات إلى بروز أزمات إنسانية حادة؛ نظرًا لما تواجهه المنطقة من قصور هيكلي بقطاعات الإنتاج، وتراجع الاستثمار، وانخفاض أسعار النفط، ما تمخض عنه أثر سلبي كبير على الاقتصادات المصدرة للبترول. 

مسارات التأثير
ولكثرة الصراعات وتعقيداتها في منطقة الشرق الأوسط، يمكن أن نحصر التأثيرات الاقتصادية فيما يلي:

1- تآكل شريحة القوى البشرية العاملة: إذ أدَّت الصراعات لموجات من الهجرة غير المسبوقة، فأشارت التقديرات لنزوح أكثر من 20 مليون مواطن داخليًّا (داخل البلدان العربية نفسها)، وأكثر من 10 ملايين لاجئ، فضلًا عن ضحايا القتل والإصابات، فهناك ما يقرب من نصف مليون ضحية من المدنيين والعسكريين منذ عام 2011، وتعتبر سوريا من أكبر الدول بالمنطقة تأثرًا بالصراعات والحروب، ويوجد بها نحو 12 مليون نازح داخليًّا.

وللصراع تبعاته الخطيرة على الأوضاع الاجتماعية بالدول، فهناك علاقة طردية ما بين الصراع وإطالة أمده، وبين الفقر وتدني مستويات المعيشة من ناحية، كما تنخفض معها درجة التعليم؛ الأمر الذي ينعكس بالنهاية على انخفاض رأس المال البشري؛ الذي يعد أهم عناصر إدخال القطاع الاقتصادي.

ونظرًا لأن سوريا هي المثال الأكثر مأسويًّا، فارتفع مستوى البطالة من 8.4% في 2010 لأكثر من 50% في 2013، ووصلت معدلات التغيب عن التعليم لأكثر من 52%. 

2- تدمير البُنى التحتية التابعة لقطاعات الإنتاج: أيضًا أسهمت الحروب والصراعات المسلحة بالمنطقة، في تدمير الطرق والمستشفيات والجسور، وهلاك البُنى التحتية الخاصة بالمياه والصرف الصحي والطاقة، فضلًا عن هلاك القطاع الزراعي والصناعات الوسيطة؛ الأمر الذي له تبعاته الجمة على القطاع الاقتصادي ككل، من عائدات التصدير، واحتياطات النقد الأجنبي، ومعدل النمو الاقتصادي.

ففي سوريا على سبيل المثال دمرت الحرب نحو 30% من البُنى التحتية الخاصة بقطاع الاقتصاد، أما اليمن فكان لتداعيات التدمير الهائل لبنيتها التحتية بروز حالات إنسانية مزمنة، وارتفعت معدلات الأمراض بشكل كبير، وانعدام الأمن الغذائي.

3 – انخفاض المعاملات الاقتصادية: شهدت الكثير من البنوك والمؤسسات الاقتصادية انخفاضًا في تعاملاتها اليومية؛ ما أثر على فعاليتها؛ نظرًا لعدم إمكانياتها الوصول لفروعها التابعة لها في أقصى البلاد، أو المناطق المعرضة لتنظيمات إرهابية. 

فضلًا عن سعي أطراف الصراع لمحاولة السيطرة على المؤسسات الاقتصادية، فعلى سبيل المثال، حاولت أطراف الصراع في ليبيا السيطرة على منطقة الهلال النفطى (المنطقة الأكثر زخمًا بالنفط) والمؤسسة الوطنية للنفط، وهو ما حذرت منه الدول الغربية من سيطرة الجماعات المسلحة في طرابلس على المؤسسة واستيلائها على موارد النفط بها.

وفي النهاية تؤدي الصراعات في المنطقة إلى بروز مخاطر على المدى الطويل، فتمخض عن الصراعات نوع من انعدام الثقة والأمن المجتمعي؛ ما تجلى في انخفاض الاستثمار الأجنبي، وتدهور أداء القطاعات المالية، وتقلص أداء قطاعي السياحة والتجارة؛ الأمر الذي تبعه انخفاض الناتج القومي الإجمالي، وزيادة عجز الموازنة، وارتفاع حجم المديونية الخارجية، ووصول للتدخل الأجنبي لصناعة القرار السياسي.
صورة تعبيرية
صورة تعبيرية
التداعيات الاقتصادية للعنف والإرهاب
كان للإرهاب تبعاته المباشرة على اقتصادات الدول بمنطقة الشرق الأوسط، فهناك تأثيرات سلبية على الناتج القومي ككل، ومؤشرات الاقتصاد الكلي، من درجة التضخم، والميزان التجاري، ونسبة الواردات والصادرات لكل دولة.

1 - الناتج القومي الإجمالي: تأثرت اقتصاديات الدول من ناحية ناتجها القومي، والذي انخفض بشدة في الدول الثلاث التي تعاني إرهابًا بمعظم أراضيها، فمن ناحية الناتج القومي الإجمالي لكل دولة تأثر بقيمة 45% في المتوسط، خاصة سوريا واليمن وليبيا، فتأثر الناتج السوري بنحو النصف؛ إذ تشير التقديرات السنوية إلى أن الناتج المحلي لسوريا بعام 2010 كان ضعف الناتج بعام 2016، أي تأثر الاقتصاد السوري بنسبة 50% قبل وبعد الحرب الأهلية السورية. 

وفي اليمن، تأثر الناتج القومي بنحو 30% من اقتصادها المحلي، أما ليبيا فتأثر اقتصادها بنسبة 25% مقارنةً بأعوام ما قبل الأزمة. 

2 - معدل التضخم: هناك علاقة بين الصراعات في المنطقة ومعدل التضخم الاقتصادي، فقد وصل التضخم لأكثر من 14% في عام 2011 بكل من اليمن وليبيا، وهذا نتيجة تأثير الصراعات على شبكات الطرق، ومعدل الأمان المجتمعي؛ الأمر الذي يصعب عليه تغطية أراضي الدولة كافة باحتياجات المواطن من السلع الغذائية والاستهلاكية، فضلًا عن لجوء الدولة لسياسة التمويل النقدي لرأب صدع عجز الميزانية، ولجأت بعض الدولة لسياسة كارثية وهي طبع الورقات البنكية دون غطاء نقدي؛ ما يؤدي إلى آثار متسارعة نحو معدل التضخم، وهي سياسة –للأسف- اتبعتها غالبية الدول العربية إبان ثورات الربيع العربي. 

3 - اقتصاد دول الجوار: تأثرت بلدان الجوار بالصراعات المسلحة، والحروب في البلدان العربية بطريقة غير مباشرة؛ حيث أفرزت تلك الصراعات -كما أوضحنا سلفًا- موجات كبيرة من اللاجئين تقدر بمئات الآلاف، فنجد أن عدد اللاجئين وصل إلى أكثر من مليون لاجئ، وهو ما يقدر بنحو 17% من الكتلة السكانية اللبنانية، كما تدفق إلى الأردن لأكثر من 600 ألف لاجئ من سوريا بوجه محدود، وقد مثل هذا العدد ما يقارب 7% من سكان الأردن، أما عن تركيا فقد استقبلت ما يتجاوز 3 ملايين لاجئ بعام 2016 فقط.
اللاجئون
اللاجئون
وعليه، فقد أسفر التدفق غير المسبوق للاجئين عن تحديات اقتصادية أخرى غير الذي تواجهها الدولة المعنية بداخلها، من ضغوط إضافية على قطاع الأغذية، والقطاع السكاني، ومؤسسات البُنى التحتية، إضافة إلى المرافق الصحية.

وتمثلت تلك التحديات الأخرى في تباطؤ النمو الإنتاجي للدولة بمتوسط يصل 1.9%؛ الأمر الذي مثل نوعًا من الضغط على المؤسسات الحكومية، في توفير فرص عمل أخرى للشباب اللاجئ، وعلى سبيل المثال، انخفض معدل النمو بالأردن ما بين 2- 2.6% في الفترة ما بين 2011 و2016. 

علاوة على ذلك، معدل البطالة المحلي للدولة المستقبلة بين قطاع القوى العاملة، كما قد يترتب على محدودية الموارد لتلك الدولة، سلوك بعض اللاجئين لأنماط غير قانونية؛ إما الاستغلال من قبل المواطنين المحليين لهم في أعمال أخرى قسرية وإما غير أخلاقية، أو اتجاهها نحو عمل تطرفي، ويتم تجنيدهم من قبل الجماعات الراديكالية للقيام بأعمال إرهابية داخل الدولة، وهو ما حدث في عدد من التفجيرات الإرهابية داخل القارة الأوروبية. 

وأثر معدل تدفق اللاجئين على انخفاض معدل الأجور بين السكان المحليين؛ نتيجة لقبول اللاجئ بأي عروض في قطاع العمل من انخفاض معدل الأجور، وعدم التقيد بأي تعقيدات إدارية؛ ما أثر سلبًا على قطاع العمال المحلي الذي يجد نفسه في مقارنة أقل تفضيلًا من اللاجئ القادم، الذي لا يضع شروطًا أمام صاحب العمل، واتجاه الأخير لاستغلال اللاجئ في أعمال غير آدمية. 

وقد شهدت معظم الدول العربية المستقبلة للاجئين، مثل هذه الظاهرة في قطاع الأعمال وعلى رأسها لبنان ومصر، الذي وجد شبابه عالقًا ما بين تهديد قوت يومه، وما بين عروبته التي جعلته يكره استقبال دولته للاجئين، وارتفاع أصوات القومية، وما يقابلها في اليمين المتطرف بأوروبا.
 البنك الدولي
البنك الدولي
آليات المواجهة
للمؤسسات الاقتصادية دور مهم في إدارة اقتصاديات الأزمات والحروب، والذي يجب أن يتركز جهدها على جبهات عدة؛ للحدِّ من تفكك الدول وانهيار مؤسساتها، والعمل على تحسين الظروف الاقتصادية، والخروج من الأزمة بأقل الخسائر، أو إطالة أمد المؤسسات والسياسات التي تؤدي لاستمرار البيئة الاقتصادية للدولة في مرحلة مستقرة نوعًا ما، من خلال ما يلي: 

1 - مواجهة محاصصة القطاع الاقتصادي وفساده: لابد أن تقوم السلطات الحكومية بمنع الفساد في مؤسسات القطاع المالي كافة، ومحاولة تحييد تلك المؤسسات عن الصراعات القائمة، بجانب دفع مؤسسات القطاع المالي للعمل، برغم الاضطرابات التي تشهدها الدولة؛ للحفاظ على سير دورة الإنتاج حتى ولو ضئيلة. 

2 – التأمين الغذائي: تسعى سياسة الأمن الغذائي لتوجيه الإنفاق العام، للمساعدة في توفير الأساسيات الغذائية، والحد من زيادة عجز الموازنة المالية وإرهاقها بأعباء ذات أهمية في مرحلة الحرب الأهلية، ولابد من توجيه الموارد لدفعها نحو تحقيق الأمن الغذائي، والقيام بخطط متوسطة الأجل؛ لزيادة الاستثمار المحلي والأجنبي، وتوجيه الموارد البشرية نحو البناء الحقيقي.

ففي العراق، تم وضع خطط بالمشاركة مع البنك الدولي لجذب الاستثمارات الأجنبية في المناطق الجغرافية التي تم تحريرها من سيطرة تنظيم «داعش»، وفي أفغانستان وجهت الحكومة مواردها نحو الوظائف الأساسية للدولة مثل التعليم والصحة، ولكن ينقص كلتا الدولتين التطبيق الفاعل بعيدًا عن الفساد الذي تسببه المحاصصة في القطاع الاقتصادي (الآلية الأولى). 

3- اتباع سياسات نقدية فاعلة: يمكن للسياسات النقدية الفعالة أن تُسهم في تحقيق استقرار مؤشرات الاقتصاد الكلي، واستقرار بيئة القطاع المالي؛ ما يساعد في احتواء معدلات التضخم، واضطرابات أسعار الصرف، اللذين لهما الأثر البالغ في التأثير على مستويات المعيشة. 

4- دور المؤسسات المالية الخارجية: تلعب المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي، وصندوق النقد، دورًا مهمًّا في عبور الدول المنهارة اقتصاديًّا نحو ممرات آمنة تستطيع خلالها البدء بمرحلة التعافي الاقتصادي، من خلال الإقراض على خطط طويلة الأجل، وسياسات اقتصادية على المدى المتوسط والطويل، إضافة لتشجيع الاستثمار الأجنبي داخل تلك الدول. 

وعلى الناحية الأخرى، هناك جزء سلبيٌّ لسياسات المؤسسات الدولية؛ إذ إنها تسعى لتقليص دور الدولة في الاقتصاد، وتوسيع المجال للقطاع الخاص، ورفع الدعم عن الخدمات الحكومية، وهو ما قد يضر القطاعات الفقيرة التي تستند في معيشتها للدعم الذي تقدمه الدولة؛ ولذا فمن المفضل أن توزان الدولة ما بين سياسات البنك الدولي والسياسات الحمائية للقطاعات الهشة.
وفي المحصلة، يصعب تطبيق سياسات اقتصادية فاعلة بدول المنطقة، لتحد من الأزمات الإنسانية والاجتماعية؛ نظرًا لتأثر السلطات الانتقالية أو القائمة على الحكم بمجريات الأمور والصراع، وتشابك الحرب الأهلية في جزء كبير منها بالحكم والسلطة. 

ولذا تعمل بعض الأنظمة الحاكمة على تحويل دفة الاقتصاد نحو شراء الأدوات العسكرية، وتوجيه جزء محدود من الموارد لتوفير حدِّ الكفاف من الموارد الغذائية نحو قطاع محدود من السكان.

وغالبًا تكون تكلفة إعادة الإعمار باهظة، وخارج احتمال موارد الدولة، فيشير البنك الدولي إلى أن تكلفة إعادة إعمار الدول الثلاث الأكثر تدميرًا في المنطقة (سوريا واليمن وليبيا) تبلغ ما يقرب من 300 مليار دولار على حد أدنى؛ لذا ينبغي أن تسعى السلطات الحاكمة في دول النزاعات نحو توطيد السلام، وتوجيه الموارد لإعادة بناء المؤسسات، وترميم البُنى التحتية.
"