مسلمو صربيا.. تحديات راهنة برواسب تاريخية

أثرت المراحل التاريخية التي مرت بها منطقة البلقان في طبيعة حال الإسلام في دولها، إذ مثلت تلك المنطقة الفاصل ما بين الإمبراطورية العثمانية والإمبراطوريات الأوروبية (المجرية والنمساوية) والتي تدين بالمسيحية، ولذا مثلت منطقة البلقان الصراع بين تلك الدول بصبغته الدينية (الصراع المسيحي - الإسلامي)، وتعاهدت بلغراد بأن تكون الحامي الأول لأوروبا ضد التمدد الإسلامي والزحف العثماني في أوج توسع العثمانيين في أوروبا الشرقية، ولكنها أذعنت للحكم العثماني لعدة قرون، إلى أن انقضت عليه عندما دب الضعف في السلطة، وتخلصت منه عقب الحرب العالمية الأولى.

تتشابه دول منطقة البلقان في التاريخ الصراعي الذي شهدته ما بين الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الأوروبية (المجرية والنمساوية)، إذ كانت هناك حركة تجارية واسعة بين منطقة البلقان والعالم الإسلامي، لايزال متحف دوبروفنيك في كرواتيا على سبيل المثال يروي بعض تفاصيلها.
لكن الانتشار الأوسع للإسلام في منطقة البلقان كان مع دخول العثمانيين إلى المنطقة، وقد مثلت معركة كوسوفو بين العثمانيين والصرب سنة 1389 منعطفًا حاسمًا في تاريخ المنطقة والوجود الإسلامي فيها، لاسيما بعد قبول الصرب بقيادة فوك برانكوفيتش بالولاء للحكم العثماني عام 1392.
وفي عام 1520 تولى السلطان سليمان عرش الخلافة العثمانية، وكان مثل بقية حكام عصره بمن فيهم الروس والنمساويون والمجريون والفرنسيون يعمل على توسيع حدود حكمه، وفي 1522 قام السلطان سليمان القانوني بفتح بلجراد التي كانت تحت السيطرة المجرية آنذاك، والتي كانت تخشاها الكثير من الدول، حتى إن الملك الفرنسي فاتح العثمانيين في حرب المجر التي كانت تهدد ملكه؛ ما دفع السلطان لإنهاء أمر المجر بغزوها على رأس مائة ألف جندي سنة 1526.
وبعد انهيار دولة المجر وفشل حصار فيينا، واستشراء الخلافات والمكائد الداخلية بدأت الدولة العثمانية تتراجع عن مواقعها شيئًا فشيئًا، حتى وقعت معاهدة برلين سنة 1878 التي دفعتها للخروج من البوسنة، وكانت حرب البلقان 1912 ـ 1913 بداية مرض الرجل القوي الذي غدا بعد ذلك التاريخ بعشر سنوات «الرجل المريض»، وكانت تلك التطورات وبالا على المسلمين في صربيا، بل البلقان قاطبة، فقد هدم كل شيء له علاقة بالإسلام والمسلمين، واعتبر المسلمون الصرب وغيرهم خونة ومنشقين، وبدأت موجة عاتية من الاضطهاد والقتل ومحاولة للتنصير بالقوة، الأمر الذي دفع الآلاف ممن نجوا من المذابح للهجرة إلى تركيا وغيرها من الدول الإسلامية، وهم الطبقة الميسورة، بينما ظل ضعاف الحال ومن لا يملكون ثمن تكاليف السفر.
من هم البوشناق؟
تسمى الأقلية المسلمة التابعة لأقليم البوسنة والهرسك والمناطق المجاورة له بطائفة البوشناق، ويقطن غالبية البوشناق البوسنة والهرسك بنسبة تبلغ 44%، وإقليم السنجق الذي تتقاسمه صربيا والجبل الأسود وكوسوفو، وتقع معظم أراضي الإقليم بدولة صربيا، ويقطنه حوالي 95% من المسلمين.
ينتمي العرق البوشناق لسلالة السلافيين الجنوبيين (سلالة غالبية قاطني منطقة البلقان)، وتعددت الرؤى حول اعتناقهم للإسلام قبل الفتح العثماني أو بعده، فبعض الروايات تسرد أن الإسلام قدم لمنطقة البلقان قبل مجيء العثمانيين بحوالي 100 عام، والبعض الآخر يرى أن الإسلام قدم مع الفتح العثماني لمنطقة البلقان.

بنية المجتمع المسلم في صربيا
لا يمكن حصر أعداد المسلمين بشكل دقيق في صربيا، إذ تحاول السلطة إضفاء نوع من الغموض على العدد الحقيقي لهم، وفي نفس الوقت تبالغ الجمعيات الإسلامية بصربيا في أعدادهم، والتي تشير إلى أن السكان المسلمين في صربيا يبلغون 700 ألف نسمة، أما التقديرات الموضوعية فتقول: إن العدد الإجمالي للمسلمين هناك قد يكون في حدود 400 ألف نسمة[1].
يتشكل المجتمع المسلم في صربيا من مسلمي إقليم البوشناق والألبانيين، وتختلف الجماعتين من حيث العرق، إذ تنحدر أقلية البوشناق من السلالة السلافية، وينحدر الألبانيون من السلالة الآليرية، وتتحدث الجماعتان لغتين مختلفتين (الألبانية واللغة الصربية)، ولهما تقاليد ثقافية غير متجانسة، فإن المسافة الاجتماعية الفاصلة بينهما ضئيلة جدًّا بحكم أن الروابط النفسية والاجتماعية بينهما تستمد قوتها من الإسلام الذي يمثل حبلهما الممدود الجامع لهما، وفي هذا السياق، وبقطع النظر عن التباينات التي تفرضها الاستراتيجيات المختلفة، فإن هاتين الجماعتين الاثنتين المختلفتين من المسلمين في صربيا تعملان على الانخراط الفاعل في المجتمع الذي تعيشان فيه، وتؤكدان التزام المسلمين في صربيا بقيم وأخلاقيات دينهم التي تحض على نبذ العنف والعيش بسلام مع مخالفيهم في العقيدة والدين[2].
تحديات مسلمو صربيا
واجه مسلمو دولة صربيا عدد من التحديات وصلت لحد الاضطهاد العرقي في القرن التاسع عشر، ويمكن تحديدها في تحديات إثنية، وتحديات اقتصادية وسياسية، وتختلف التحديات التي واجهها المسلمون في صربيا عن دول منطقة البلقان؛ لأن الأولى مثلت أوج الصراع ما بين الإمبراطوريات والتي توجتها بصراعات دينية.
- تحدي الاندماج الممنهج:
يواجه مسلمو صربيا معوقات اجتماعية تجاه الانخراط داخل المجتمع الصربي، إذ تسعى صربيا لخلق جو من الاضطهاد الممنهج تجاه الأقليات المسلمة بحكم التاريخ العدائي مع العثمانيين، ويستهدف الاضطهاد العرقي جماعتي البوشناق والألبان، إذ تبدو كلاهما موروثًا إسلاميًّا ترفضه الثقافة المسيحية الصربية، ففي الفترة الأولى (1820-1834) من الحملة الصربية ضد الوجود الإسلامي في المناطق الصربية المركزية هدمت مئات المساجد؛ لإجبار المسلمين على تغيير معتقداتهم، ومحو كل الآثار والمظاهر الإسلامية الموجودة، ولم يتبق منها في صربيا سوى جامعين سَلِما من الهدم، هما جامع في بلغراد وجامع في مدينة نيش، أُحرقا بدورهما خلال الاحتجاجات المعادية للإسلام في الأعوام القليلة الماضية، نفس تلك الحملات المستهدفة للوجود الإسلامي ومظاهره طبعت سياسة السلطات الصربية الحاكمة في إقليم السنجق ومنطقة بريشيفسكو دولينا؛ حيث هُدم عدد كبير من المساجد خاصة في فترة أواخر التسعينيات، حتى استقلال كوسوفو عام 2001، وفي فترة قصيرة نسبيًّا شيدت الجماعة المسلمة 180 مسجدًا جامعًا في منطقتي السنجق (120 مسجدًا)، وبريشيفسكو دولينا (60 مسجدًا)؛ حيث تعيش أغلبية مسلمة، ولايزال عدد المساجد المشيدة في ازدياد متواصل[3].
- تحدي الممانعة من الحقوق السياسية:
على مستوى تنظيم حياتهم الدينية وإنشاء مؤسسات تُعنى بذلك وتدافع عن حقوقهم، يجد المسلمون في صربيا أنفسهم أمام تحدٍّ ضخم وصعوبات كبرى، على سبيل المثال، فقد تعرض أئمة مساجد في إقليم السنجق إلى السجن بعد أن اعتقلوا من داخل المساجد على أيدي رجال الشرطة الصربية على خلفية مذكرات اعتقال صادرة عن وزير الداخلية في خرق صارخ للمادتين 11 و44 من دستور جمهورية صربيا؛ ومرت تلك التجاوزات دون محاسبة أو عقاب بل وحتى دون اعتذار من المؤسسات الرسمية التي لا تُحجم عن وضع كل العراقيل التي تمنع مسلمي صربيا من تنظيم حياتهم الدينية الخاصة، ولا تتوانى عن التدخل في عمل مؤسسة «الجماعة الإسلامية» ذلك أن مسلمي يوغسلافيا السابقة (التي كانت تضم صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود ومقدونيا وكوسوفو وسلوفينيا) كانوا ينتظمون في مؤسسة إسلامية موحدة إلى حدود انهيار يوغسلافيا عام 1991، وكان مقر تلك المؤسسة المسماة «الجماعة الإسلامية» في سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، ومع أن دساتير كل الدول المنبثقة عن تفكك جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية، بما فيها صربيا، تنص صراحة على ضمان توزيع الكنائس والجمعيات الدينية بين الدول، كما تضمن عدم تدخل الدول المستقلة عن يوغسلافيا في عمل الجمعيات الدينية، إلا أن السلطات الصربية لا تسمح للجماعة الإسلامية في صربيا ومقرها الرئيسي في نوفي بازار، بالانضواء تحت لواء الجماعة الإسلامية الأم في البوسنة والهرسك، ولا تسمح لها بالاعتراف بمؤسسة رئيس العلماء الذي يرأس الجماعة الإسلامية في البوسنة والهرسك.[4](
- تحديات قومية:
وعلى صعيد التحديات فإن المسلمين يواجهون نفس التحديات الاقتصادية والسياسية والتعليمية والثقافية التي يواجهها الصرب أنفسهم، ولكن بدرجة أكثر حدة؛ فتلك العقبات والتحديات التي تعترض مسلمي صربيا لاتزال تتخذ طابع التحديات المُمنهجة والمنتظمة التي تهدف إلى التمييز والتهميش للفئات المجتمعية المختلفة إثنيًّا ودينيًّا عن الغالبية داخل المجتمع، ومن ثوابت السياسة الصربية خلق أجواء مشحونة ضد الإسلام والحض على الكراهية، حتى إن سياسة التمييز التي تنتهجها السلطات الصربية تجاه المسلمين تبدو شديدة الوضوح في مختلف مناشط الحياة المجتمعية.[5].
- تحدي الاستقلال والتبعية:
حتى تزيد من تعقيد تواصل مسلمي صربيا الطبيعي من خلال الانضمام إلى جماعة إسلامية موحدة مع مسلمي البوسنة والهرسك، فقد عملت السلطات الصربية على تيسير تأسيس ما سُمي بـ«الجماعة الإسلامية الصربية» ومقرها الرئيسي في العاصمة بلغراد، وألحقت بها بقرار أحادي الجانب مشيخة الجماعة الإسلامية في إقليم السنجق كوحدة دينية تابعة لها، وفي خطوة احتجاجية ورفضًا منها للتبعات السلبية لهذه السياسة غير المبدئية من قبل السلطات الصربية، ووفقًا لنصوص دستور جمهورية صربيا الذي يضمن عدم تدخل الدولة في عمل الجمعيات الدينية، فقد غيرت الجماعة الإسلامية الصربية اسمها لتصبح «الجماعة الإسلامية في صربيا»، مؤكدة انضواءها تحت مظلة الجماعة الإسلامية الأم والمركزية في سراييفو، ومنذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا، فإن هذا العمل المخالف للدستور الذي قامت به السلطات الصربية ما زال يهدد، ليس فقط تنظيم الحياة الدينية بل وأيضًا أسس الوحدة الإسلامية للمسلمين في صربيا، ويعرّض المسلمين المنتمين إلى إحدى الجمعيتين الإسلاميتين في السنجق ونوفي بازار إلى مخاطر الانقسام والتفكك.
- تحد مجتمعي:
يمثل الضغط النفسي الذي يلقاه المسلمون في صربيا إشكالية خاصة؛ حيث يسود جو عام داخل المجتمع الصربي يمجّد «العدوان» الذي تعرض له المسلمون البوشناق في البوسنة والهرسك ما بين 1992-1995، وما صاحبه من إبادة جماعية كانت الأسوأ على أرض أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ويحيي الصرب ذكرى مذبحة «سربرينيتسا» تشفيًا بالمسلمين في صربيا، ويصورون القائدين العسكريين المسؤولين عن تلك الفظائع، رادوفان كارادجيتش وراتكو ملاديتش، على أنهما فعلا ما يجعلهما قدوة، ويجب أن يتبعهما كل الصرب في تعاملهم مع كل مسلمي صربيا البوشناق منهم والألبان، ولا تعاقب السلطات الصربية الأفراد والجمعيات التي تدعو وتحرض الصرب على كراهية ومعاداة المسلمين والإسلام، بل إنها ذهبت إلى حدِّ السماح للبلديات المحلية بإطلاق اسميْ مجرمَي الحرب، كارادجيتش وملاديتش، على عدة شوارع في عدد من المدن الصربية.
للمزيد: الهروب الكبير.. صربيا تفتح أبوابها للإيرانيين.. والاتحاد الأوروبي يحذر من كارثة
--------------------
[1] Nemanja Krsti´c, Religiosity and Informal Economic Practices in Southeastern European Societies, Faculty of Philosophy, University of Niš, AVILABLE ON https://www.mdpi.com/2077-1444/9/10/295/pdf
[2] Anders Bäckström, WELFARE AND RELIGION IN A EUROPEAN PERSPECTIVE(WREP): A comparative study of the role of the churches as agents of welfare within the social economy, AVILABLE ON http://www.rj.se/GlobalAssets/Slutredovisningar/2002/Anders_Backstrom_eng.pdf
[3] فريد موهيتش، المسلمون في صربيا ومقومات حفظ الوجود، مركز الجزيرة للدراسات، متوفر على الرابط التاليhttp://studies.aljazeera.net/ar/files/musliminbalkan/2013/10/20131098217892180.html
[4] وفق دستور الجماعة الإسلامية في البوسنة والهرسك لعام 1997، فإن الجماعة الإسلامية في البوسنة والهرسك ورئيس العلماء بصفته السلطة الأعلى فيها، قد اعترفت بالجماعة الإسلامية في كرواتيا ونظيرتها في سلوفينيا ومشيخة الجماعة الإسلامية في السنجق (والتي غيرت اسمها عام 2007 إلى الجماعة الإسلامية في صربيا).
[5] مرجع سابق، مركز الجزيرة للدراسات