تشبه ظروف دخول الإسلام إلى دولة كوسوفو نظيرتها في ألبانيا، نظرًا لتشابه المؤثرات الخارجية
التي أدخلت الإسلام والاستعمار السوفييتي، إضافة لطبيعة التركيبة الاجتماعية، ومُتاخمة الحدود الأوروبية وبالتالي التأثر
بالثقافة الأوروبية في كلتا الدولتين.
تبتعد ديناميكية وأفكار
الإسلام السياسي في كوسوفو عن العديد من الدول، ليطلق عليه نوعٌ آخر يمتاز به مثل «الإسلام الخفيف» أو «الإسلام الألباني»؛ نظرًا لربطه بمظاهر
الدين الإسلامي في ألبانيا وبخاصة الحركة البكتاشنية (مذهب صوفي يبتعد عن توجه
الإسلام المتشدد وله أحكام مغايرة لمبادئ القواعد الإسلامية الشائعة)، على الرغم
من غالبية المجتمع الكوسوفي بالإسلام، فإن طبيعة الثقافة السائدة تتشابه إلى حد
كبير للثقافة الأوربية؛ لعدة عوامل الطبيعة الجغرافية القريبة من أوروبا، وحركات
التبشير المسيحي عقب انهيار الاحتلال السوفييتي وسقوط النظام الماركسي بكوسوفو بعام
1992م.
نظرة تاريخية
أكثر من عشر سنوات مرت منذ أن أصبحت كوسوفو دولة مستقلة. بعد أن خدمت كمركز لإمبراطورية صربية القرون الوسطى، خضعت بها لهيمنة الإمبراطورية العثمانية بعد هزيمة الجيش الصربي في معركة كوسوفو في 1389. خلال الحكم العثماني (1455-1912) ، تغيرت التركيبة السكانية للمنطقة وتجاوز عدد سكانها من الألبان الذين يشكلون أغلبية مسلمة الصرب الأرثوذكس الشرقيين.
بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية في أوائل القرن العشرين، تم دمج كوسوفو في صربيا (في وقت لاحق من يوغسلافيا)، ولكن تم منحها وضعًا مستقلًا. وكانت كوسوفو أقل البلدان نموًا وأشدها فقرًا في يوغوسلافيا السابقة، وتلقت إعانات من الحكومة المركزية في بلجراد.
بعد وفاة مارشال تيتو، وتولّى القوميين الصرب السلطة، فقدت كوسوفو تدريجيًّا وضعها الإيجابي، ما أدى إلى تزايد التوتر العرقي خلال الثمانينيات. وصلت التوترات بين الأعراق إلى ذروتها مع حل يوغوسلافيا في عام 1991؛ حيث أنشأ الألبان العرقيون حكومة موازية في تحد لبلجراد. ومن بعدها تدخل الناتو لاستقلال كوسوفو عن صربيا في 1999م. في أعقاب تتويج حرب كوسوفو، استقلت الأخيرة تحت إشراف الأمم المتحدة، ومن ثم تحت إشراف الاتحاد الأوروبي، وطورت هياكل دولة مستقلة لمدة عقد قبل إعلان استقلالها عن صربيا في 17 فبراير 2008.
ورغم أن محكمة العدل الدولية قضت في عام 2010، بأن إعلان استقلال كوسوفو لا ينتهك القانون الدولي، فإن صربيا لم تقبل هذا القرار. ومع ذلك، فقد أدى الدفع من جانب المجتمع الدولي جنبًا إلى جنب مع محاولة كل من صربيا وكوسوفو للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى تسهيل المصالحة السلمية مع كوسوفو، ما أدى إلى اتفاق بروكسل عام 2013 بين صربيا وكوسوفو[1].
- دخول الإسلام لكوسوفو
على مدار فترة حكم الإمبراطورية العثمانية اكتسبت منطقة البلقان أهمية تاريخية؛ نظرًا للتداعيات السياسية والاجتماعية التي خلفتها تلك الفترة في المنطقة، خاصة من الناحية الدينية، إذ غير الحكم العثماني من الثقافة الدينية السائدة (المسيحية)، التي حولت غالبيتها للديانة الإسلامية، وعليه فقد اندلعت صراعات عدة بتلك المنطقة ما بين متديني الديانة الإسلامية والمسيحية، ومازال يمتد هذا التأثير حتى اليوم.
ومن أبرز الأحداث السياسية لفترة الحكم العثماني، هو هزيمة الإمبراطورية البيزنطية بمنطقة البلقان في القرن الثالث عشر من الميلاد، ودخول معظم مواطنيها داخل الديانة الإسلامية، الذين ظلت دولهم تحت حكم السلطان العثماني لقرابة الخمس قرون. وعقب هزيمة الإمبراطورية توالت التحديات والصعوبات على المنطقة ما بين تحديات الماضي العثماني ورهانات الحاضر العلماني الأوروبي، إذ خضعت المنطقة لعمليات تبشير مسيحي، حتى إعلان الحكم الشيوعي بها، وقيامه بمنع ممارسة شعائر الديانة الإسلامية.
نتيجة لعمليات التبشير المسيحي والاضطهاد الماركسي الذي خضعت له المنطقة، هاجرت أعداد كبير من المسلمين إلى الدول العربية وتركيا المجاورة، بجانب محاولات قسرية للتحول نحو الديانة المسيحية، وخضوع المسلمين بها لعمليات الاضطهاد باعتبارهم أقلية غير مرغوب بها ضمن الثقافة الأوروبية التي غلبت على المنطقة عقب انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991م.
بنية المجتمع الإسلامي في كوسوفو
أثرت جغرافية وتاريخ كوسوفو في انعكاس دور الدين في بنية المجتمع وتأثيره على التركيبة المجتمعية والسلوك السياسي للجماعات الدينية، ما خلق للإسلام هناك نوعًا خاصًا تمتاز به، كما وقد تأثرت بحكم عولمة النظام العالمي للتأثر بالبيئات المحيطة، لينتشر بها نوع من التشدد الديني متأثرة بالحركات الإرهابية في المنطقة العربية[2].
يوجد في كوسوفو أعلى نسبة من المسلمين من بين مجموع سكان بلد ما في أوروبا باستثناء تركيا. اعتبارًا من عام 2009، نقدر أن نسبة المسلمين في كوسوفو تبلغ حوالي 93٪. ومن الصعب للغاية الحصول على بيانات موثوقة عن حجم ومسار السكان المسلمين في كوسوفو، ويدين غالبية المجتمع المسلم في كوسوفو بالمدرسة الحنفية[3].
- الجغرافية السياسية والنسخة المعتدلة من الإسلام
أجبر الموقع الجيو سياسي لكوسوفو الدولة على اتباع نسخة معتدلة من الإسلام، ما جعل غالبية الشعب يؤمن بأن الدين هو شأن خاص، ولا يعني اعتناق غالبية الشعب له، هو اعتناق الدولة للدين، فلا تزال دولة كوسوفو علمانية التوجه، ولا وجود للحديث عن تطبيق الشريعة الإسلامية.
يرجع اقتناع الأفراد بهكذا صبغة من الدين إلى أجداد المواطنين الذين كانوا مسيحيين ولديهم ارتباط وثيق بالقارة الأوروبية ثقافيًّا واجتماعيًّا، بجانب عودة البعض إلى الديانة المسيحية، لعدم اندماجهم مع الدين الإسلامي، بجانب حملات التبشير التي امتلأت بها منطقة البلقان بعدما سقطت الامبراطورية العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأولي.
كما أدى القرب الجغرافي للدولة من منطقة الاتحاد الأوروبي والتي يعتنق معظمها الديانة المسيحية، لتأثر عدد من المواطنين بتلك الديانة، وبخاصة للامتيازات التي منحتها الدولة الأوروبية للأقليات المسيحية من الدول الخارجية عن نطاقها من الدعم المالي والمنح الطلابية، وكذلك فرصة الدخول ضمن المنطقة الأوروبية، بالتالي ضرورة اتباع المنهج الديمقراطي الأوروبي في هيكلة شكل الدولة الأوروبية ( فصل الدين عن الدولة).
وبعد أن نجحت هذه المجتمعات بالتخلص من ذكريات الماضي المليئة بالمجازر والتصفيات العرقية والهجرات القسرية، تقف اليوم من جديد أمام التكيف مع المعايير الأوروبية حول الإسلام والتعايش مع القوانين الدستورية العلمانية والخلفية الإسلامية بطابع خاص بهم[4].
ويمكن أن يقابل النهج الديني في كوسوفو المذهب البكتشاني في ألبانيا، وكلاهما له طابع خاص من المعايير الإسلامية السائدة في نطاق مجتمعهما، ولذا يطلق على النهج المعتدل بكوسوفو بالإسلام الألباني.
والمذهب البكتشاني، هو مذهب يؤمن به قطاع عريض من المسلمين في منطقة البلقان، وتعد الطائفة البكتشانية طائفة غير تقليدية، تكتشف الله في الطبيعة، والبشر، وتتجاهل معظم القواعد الإسلامية، مثل الامتناع عن الكحول، وحجاب النساء، معلنين التسامح مع جميع الديانات، والدعوة للانتقام من السلطة العثمانية السنية.
نمت الحركة البكتاشية بقوة في ألبانيا، وأسهمت في التوفيق بين الديانتين الإسلامية والمسيحية ما جعلها تنتشر بقوة في المجتمع، واتخذت الحركة من نفسها مدافعًا عن القومية الألبانية ضد الوجود التركي بألبانيا في أواخر القرن التاسع عشر[5].
- التشابك الديني والنسخة المتشددة
هناك تيار متشدد من المسلمين الذي ينشط بقوة في المنطقة العربية عقب نشأة جماعة الإخوان في مصر بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، والذي أعقبه نشأة عدد من التيارات المتطرفة التي تؤمن بضرورة الاحتكام للدين الإسلامي فقط، وأن السبيل الوحيد للتغيير السياسي لابد من امتزاجه بالعنف والإرهاب، وقد تأثر كثير من المواطنين حول العالم بهذا التيار نظرًا لانتقال قيادات الجماعات المتطرفة للدول، أو لتأثر الطلبة الدراسين بتلك الدولة بهذا التيار نتيجة للاندماج داخل صفوف تلك الجماعات مثل الطلبة الوافدين إلى الدول العربية وتركيا لدراسة الدين الإسلامي، أو نتيجة لدور الجمعيات الإسلامية التي أنشأتها القيادات الإسلامية بداخلها.
هناك أجزاء من المجتمع الكوسوفي أصبحت أكثر تدينًا، ويعبر عنه الناس من خلال ممارسة الشعائر الدينية وتطبيق الفرائض مثل غطاء الرأس وزيارة المساجد"، وينوه إلى أن سبب انتشار هذه الأفكار الدينية بين أفراد المجتمع هو نشاط دور الجمعيات الخيرية الإسلامية التي حاولت ملء الفراغات التي أهملتها الحكومات.
ونظرًا للعدد الكبير الذي توجه من كوسوفو إلى سوريا للانضمام الى صفوف الإرهابيين ضد النظام السوري، تُعرف هذه الدولة بأنها «العاصمة الأوروبية للجهاد»، مع تحول «الجهاد» وشؤونه في كوسوفو إلى أحد أكثر القضايا حساسية. كما يرفض المسؤولون هناك التطرق إلى الحديث عن الإرهاب و«الجهاديين» مكتفين بتعليق موحد عن أي أسئلة بهذا الشأن تشير إلى أن الحديث عن هذه القضية ما هو إلا «دعاية روسية صربية» موجهة ضد كوسوفو[6].
- التوظيف السياسي للإسلام في الصراع الإقليمي بمنطقة البلقان
ترجع جذور التوظيف السياسي للدين الإسلامي إلى القرون الوسطى والصراع ما بين الإمبراطورية العثمانية، والكنائس المسيحية المتمثلة في الكنيسة الأرثوذكسية الكنيسة الكاثوليكية، واشتدت رحى الحرب بينهما عقب سقوط الإمبراطورية وتقسيم منطقة البلقان لعدة دول، واستمر الصراع بين الدول المنبثقة على أساس ديني.
- ثنائية الصراع المسيحي- الإسلامي
وظف الدين بشكل كبير في الصراع الإقليمي ما بين صربيا من ناحية، وكوسوفو من ناحية أخرى في عام 1999م، التي شنت خلال قوات حلف الناتو حملة عسكرية أرغمت بها صربيا بالتخلي عن كوسوفو ووضعا تحت حماية دولية برعاية الأمم المتحدة.
كانت صربيا تركز على أن «كوسوفو هي العاصمة الروحية للصرب الأرثوذكس» وأن «التخلي عن كوسوفو للألبان المسلمين يعني إفساح المجال لكيان إسلامي إرهابي».
بينما كان الألبان يركزون في دعايتهم لكسب تأييد العرب والمسلمين على «البربرية الصربية» التي شملت معظم الجوامع وترحيل الألبان بالقوة لكي لا تبقى كوسوفو بأغلبية ألبانية مسلمة.
ويمكن أن نذكر هنا ما روته وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت (1997-2001) في كتابها «الدين والشؤون الدولية»، «حاول الرئيس الصربي الأسبق سلوبودان ميلوشيفيتش إقناعي بأن صربيا ظلت عدة قرون تحمي مسيحية الثقافة الأوروبية من التغلغل الإسلامي المصاحب للإمبراطورية العثمانية لمنطقة البلقان، وبالتالي فإن صربيا لن تتخلى عن كوسوفو حيث جرت فيها المعركة الفاصلة بين الجيش الصربي والجيش العثماني» [7]1389.
من هنا نشأ الاعتقاد الشائع الذي يربط نزاعات وحروب البلقان بـ«التاريخ الديني»، وهو الذي تأخذ به أيضًا وزيرة الخارجية الأمريكية في كتابها الأخير «الجبروت والجبار: تأملات في السلطة والدين والشؤون الدولية». ففي هذا الكتاب تروي كيف كان هذا اللقاء والتوظيف السياسي للدين عشية الحرب التي شنها حلف الناتو ضد صربيا في مارس 1999 وانتهت في يونيو من العام ذاته، بإرغام القوات الصربية على الانسحاب من كوسوفو ووضعها تحت إدارة دولية. في تلك الشهور كانت «الحرب الإعلامية»، التي توظف الدين هنا وهناك، تسير بموازة الحرب الحقيقية التي تجري على الأرض.
- ثنائية الصراع الإسلامي- الإسلامي
في السابق كان التوظيف السياسي للدين ضمن ثنائية مسيحي- إسلامي، بينما الآن يتخذ ثنائية إسلامي- إسلامي. صحيح أن البلقان يحتفل الآن بمرور 150 سنة عن انفصال الدين عن الدولة بالنسبة للمسلمين، بعد احتلال النمسا المسيحية للبوسنة ذات الغالبية المسلمة في 1878؛ حيث تأسّست هيئة تمثل المسلمين أمام الدولة وترعى شؤونهم الدينية والتعليمية والثقافية، ولكن هذه الهيئة لم تعد تنفصل عن الدولة بالمعنى السياسي، بل أصبحت إحدى أدوات الدولة في نزاعها مع الدولة الأخرى.
هذا التوظيف السياسي للدين في الخلاف بين صربيا وكوسوفو، في الوقت الذي يضغط فيه الاتحاد الأوروبي على بلجراد وبريشتينا للتوصل إلى اتفاق بينهما خلال 2018، ليس لمصلحة الإسلام ولا المسلمين بطبيعة الحال. فخلال القرن العشرين مارست الأنظمة الحاكمة (القومية والفاشية والنازية والشيوعية) التوظيف السياسي للإسلام، وجعلت ممثلي المسلمين هناك يروجون أن الإسلام ينسجم مع الأيديولوجيات الجديدة الحاكمة، وهو ما انعكس سلبًا على المسلمين لاحقًا. فليس من مصلحة الإسلام والمسلمين في الأنظمة الديموقراطية الجديدة في البلقان العودة إلى «تسييس الدين» لأجل مصالح سياسية بدلًا من الاهتمام بشؤون المسلمين وتركهم عرضة للتيارات المتطرفة التي أرسلتهم لـ «الجهاد» في العراق وسوريا خلال السنوات السابقة.
[1] Mughal ABDUL, Muslims in Kosovo: A Socio-economic and Demographic Profile: Is the Muslim opulation Exploding?, available on http://js.ugd.edu.mk/index.php/BSSR/article/download/1258/1058/
[2]Garentina Kraja, THE ISLAMIC STATE NARRATIVE IN KOSOVO, Kosovar Center for Security Studies, available on http://www.qkss.org/repository/docs/ISNinKosovo-eng_794656.pdf
[3] LÁSZLÓ GULYÁS, Ottoman Kosovo (1458–1913), Institute of Economy and Rural Development
University of Szeged, available on https://dspace5.zcu.cz/bitstream/11025/15527/1/Gulyas.pdf
[4] نور علوان، مسلمون بتفكير أوروبي: كوسوفو بين "الإسلام الليبرالي" والقيم العلمانية، نون بوست، متوفر على
الرابط
[5] محمود رشدي، الإسلام الحركي في ألبانيا.. صراع الاعتدال المحلي مع التشدد الخارجي، المرجع، متوفر على
الرابط
[6] شاب كوسوفي عائد من الحرب : وجدت نفسي بين السيء والأسوأ في سوريا، بي بي سي، متوفر على
الرابط
[7] David Smock, Religion in World Affairs, Special Report, United States Institute of Peace, available on https://www.usip.org/sites/default/files/sr201.pdf