كيف يهدد العائدون من داعش الأمن القومي لأوروبا ؟

رغم أن هزيمة داعش قد شكلت
هدفًا استراتيجيًّا لأوروبا، فإن التهديد الذي شكّله التنظيم الإرهابي لم ينتهِ بفقدانه لأراضيه، وتراجع قدراته العسكريَّة أمام التحالف الدولي الذي تقوده الولايات
المتحدة. كما شكلت هزيمة التنظيم العسكرية وانهيار دولته المزعومة سببًا لمقاتليه
بالخروج من سوريا إلى دولٍ أخرى؛ حيث حاول التنظيم إيجاد بدائل أخرى تأوي مقاتليه،
فتم توجيههم بالذهاب إلى أفغانستان وليبيا على أساس أن التضاريس الجبلية داخل هذه
البلدان تمنحهم حماية من الغارات الجوية التي تنفذها القوى الدولية التي تحارب
الإرهاب.

ورغم
محاولة التنظيم المُتطرف توجيه مقاتليه إلى أماكن صراع أخرى بهدف خلق تمركزات إرهابيَّة له، فإن أعدادًا كبيرة من المقاتلين الأوروبيين قرروا العودة إلى بلادهم
الأصلية بعد أن اكتشفوا زيف دعاوى وأهداف التنظيم، الأمر الذي بات يشكل تهديدًا على
الأمن القومي لأوروبا. ولذلك، تتطرق هذه الدراسة إلى طبيعة التهديد الذي يمثله
العائدون من مناطق الصراع في الشرق الأوسط على الأمن القومي لدول أوروبا، فضلًا عن
آلية مواجهته.

تعداد
متفاوت
بالتأكيد،
لا توجد أرقام مؤكدة بخصوص العائدين الدواعش إلى أوروبا، لكن أغلب التقديرات
الاستخبارية الأوروبية تشير إلى أن أعداد الأوروبيين الذين التحقوا بتنظيم داعش قد
تجاوزوا الخمسة آلاف شخص ما بين ذكر وأنثى، منهم من قُتل أثناء المعارك التي دارت
في العراق وسوريا، بينما عاد ما يقرب من 1750 شخصًا إلى بلادهم مرة أخرى.[1]
في
واقع الأمر، لا يكاد يختلف شخصٌ على خطورة العائدين من مناطق النزاع في سوريا
والعراق، خاصةً أن البعض منهم يحمل تدريبات عسكرية عالية للغاية، لكنّ المجتمع
الأوروبي يضع في الاعتبار أن العديد من هؤلاء قد تعرض للخداع أثناء استقطابه من
قبل تنظيم داعش، لكنّ ظروف الحرب لم تكن مواتية له للعودة، ما يعني أن هزيمة تنظيم
داعش قد وفرت المناخ الآمن للكثير من أجل العودة إلى بيوتهم مرة أخرى.
وفي
ضوء ذلك، قد أشارت دراسة أجرتها السلطات الألمانية -نشرها موقع دي فيلت
الألماني-أن 10 % من الألمان الذين انضموا لتنظيم داعش ذكروا أنهم تعرضوا للتضليل،
في حين أن 48% من العائدين لا يزالون محتفظين بانتماءاتهم الأيديولوجية المتطرفة،
ولا يزالون على اتصال مع عناصر متطرفة في أماكن أخرى من العالم، ما يكشف أن سبب
عودة هؤلاء كان هزيمة التنظيم في سوريا والعراق على أيدي قوات التحالف الدولي
بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يؤكد أن هؤلاء العائدين يمثلون
خطرًا كبيرًا على تنظيم داعش الإرهابي.
وقد
ذكرت دراسة أجراها مركز صوفان Soufan center،
ونشرتها جريدة الواشنطن بوست في 22 فبراير 2018، أن ما يقارب 1200 عنصر قد عادوا
إلى أوروبا، منهم 400 عادوا إلى بريطانيا، 271 عادوا إلى فرنسا، و300 عادوا إلى
ألمانيا. وقد ذكر المركز أن أعداد العائدين إلى تركيا بلغوا 900، في حين أن
العائدين إلى روسيا بلغوا 400 من إجمالي عدد الروس الذين انضموا للتنظيم والذين
بلغ عددهم 3400 وفقا للدراسة[2].
وفي
دراسة أجراها البرلمان الأوروبي، وصدرت في مايو 2018، ذكرت الدراسة أن موجات العودة
إلى أوروبا تمت على مرتين، أولها كان في 2014، أي قبل إعلان تنظيم داعش دولته
المزعومة، في حين أن الأخرى، بدأت بعد قيام التحالف الدولي بشن هجماته على تنظيم
داعش الإرهابي، مع ملاحظة أن وتيرة التدفق والعودة قد زادت بعد هزيمة التنظيم،
وفقدانه للمزيد من الأراضي.
وقد
ذكرت الدراسة أن 125 شخصًا قد عادوا إلى بلجيكا من إجمالي 413 بمعدل عودة بلغ 30%،
في حين أن 67 من إجمالي 145 قد عادوا إلى الدنمارك بمعدل عودة 46%. ويعد معدل
العودة في فرنسا قليل للغاية مقارنة بباقي الدول الأوروبية، حيث عاد 225 من إجمالي
1910 بمعدل عودة بلغ 12%. على صعيد متصل، بلغت معدلات العودة في ألمانيا 31%، حيث
عاد 300 شخص من إجمالي 960، في حين أن معدلات العودة في المملكة المتحدة كانت
الأعلى على الإطلاق؛ حيث بلغت 50 % من إجمالي عدد الذين غادروا إلى سوريا والعراق
والذين بلغ عددهم قرابة 850[3].

تهديدات
متوقعة
لاشك أن الدواعش العائدين إلى أوروبا يشكلون خطرًا جسيمًا على الأمن والسلام الداخلي داخل المجتمعات الأوربيَّة، خاصةً أن العديد منهم لايزال يتبنى الفكر المتطرف، ولم يعودوا إلى أوروبا إلا بعد أن أدركوا خطورة مناطق النزاع في الشرق الأوسط على حيواتهم، ما يعني أن العائدين إلى أوروبا لا يزالون يشكلون تهديدًا أمنيًّا جسيمًا على المجتمع الأوروبي ذاته. بعبارة أخرى، تواجه الاستخبارات الغربية تحدي السيطرة وتحييد خطر الدواعش العائدين إلى أوروبا بما لا يتعارض مع المبادئ الغربية الخاصة بحقوق الإنسان، خاصةً أن عددًا كبيرًا من هؤلاء المتطرفين لم يرتكبوا أي جرائم إرهابية على الأراضي الأوروبية.
لعل
التخوف الأكبر داخل أوروبا هو قيام المتطرفين بشن هجمات إرهابية بشكلٍ مباشرٍ على
أهداف حيوية، خاصةً أن العديد منهم يمتلك تدريبات قتالية عالية، يمكن أن تُسهم في
تعزيز قدرتهم على تشكيل خلايا إرهابيَّة تعمل بشكلٍ منعزلٍ عن التنظيم الأم، أو عن
باقي المتطرفين داخل البلدان الأوروبية، وتعد هجمات باريس التي وقعت في 2015 مثالًا
على هذا النوع من الهجمات.
وفي الإطار نفسه، قد يتجه المتطرفون للعمل على نشر فكرهم المتطرف وتجنيد أكبر عددٍ ممكنٍ من الأوروبيين المسلمين غير الراضين عن حالة العلمانية السائدة في أوروبا، أو
الذين يعتقدون في تعرضهم لتمييز وظائفي أو ديني مضاد. يتعين هنا أن نشير إلى أن توجه
الدول الأوروبية لفرض قيودٍ على ارتداء النقاب قد يُسهم في تعزيز الفكر المتطرف،
ورغم أن مثل هذا الإجراء قد اتُخِذَ بهدف وأد الفكر المتطرف، وزيادة دمجية المسلمين المحافظين في المجتمعات الأوروبية، فإن الدول الأوروبية عليها أن تدرك
أن الملبس الديني ما هو إلا وسيلة لإرضاء الذات الدينية لصاحبه، ما يعني أن منع
فردٍ من ارتداء زيه الديني سوف يدفعه نحو المزيد من التشدد، الأمر الذي يصب في صالح
التنظيمات والعناصر المتطرفة.
ويعني
هذا الأمر أن العناصر الداعشية العائدة إلى أوروبا سوف تعمل على إحداث تمزيقٍ في
النسيج المجتمعي لأوروبا من خلال محاولة تضخيم الإشكاليات كافة التي يعاني منها
المسلمون في أوروبا، ثم سوف تعمل على توسيع هذه الفجوة بما يجعل الأمر صعب على
المجتمعات الأوروبيَّة لاستيعاب مواطنيه الذين توجهوا نحو التطرف.
ويُعد
فكرة تكوين حلقات عنقودية لخلايا متطرفة متباعدة جغرافيًّا-في أكثر من بلدٍ أوروبي-أمرًا قائمًا بهدف تشتيت قوات الأمن الأوروبي، على أن تقوم هذه الخلايا
بالتنسيق فيما بينها من أجل شن هجمات إرهابية أو تجنيد عناصر لصالح داعش في مناطق
النزاع المختلفة في العالم. صحيح، أن قدرة هذه العناصر على إقناع أفراد بالذهاب
إلى مناطق النزاع سوف تكون محدودة بسبب هزائم التنظيم المتتالية، ولذلك من المرجح
أن تعمل هذه العناصر على تجنيد المزيد من العناصر من أجل العمل لصالحها داخل
أوروبا بهدف تعظيم خطرها.
وتُعد
فكرة تنفيذ هجمات بشكل فردي قائمة جدًا، خاصةً إذا كان لدى العنصر المتطرف من
التدريب ما يكفي لتنفيذ عملية بمفرده، في ظل توافر الأدوات اللازمة لذلك. فعلى
سبيل المثال، إذا كان العنصر المتطرف ذو خبرة بصناعة المتفجرات، فهذا يعني أنه
بمقدرته صناعة قنبلة بشكل يدوي، قبل أن يقوم باستخدامها من أجل إيقاع أكبر
الضحايا. ويعد العمل الفردي أكثر صعوبة بالنسبة للأجهزة الأمنية في التقصي، لأن
العنصر المتطرف يعمل بمفرده ولا يقوم بالتواصل مع غيره من العناصر، الأمر الذي يحد
من قدرة الأجهزة الأمنية على تتبع مسار العنصر المتطرف بسبب سلوكه الانعزالي في
العمل.
وفي
أضعف الحالات قد يقوم العنصر المتطرف بتنفيذ عملية دهس على تجمعات بشرية كبيرة في
أي مناسبة وطنية، بهدف إيقاع أكبر الأضرار، ويعد هذا الأمر صعب التوقع على أجهزة
الأمن الأوروبية، لأن مثل هذه الأعمال لا يسبقها تخطيطات محكمة قد تلفت نظر
الأجهزة الأمنية. وبإمكان النساء الداعشيات أن يكُنَّ عنصرًا فاعلًا في تهديد الأمن
الأوروبي خاصة أن النساء دومًا ما يكن أقل شبهة عندما يتعلق الأمر بالعمليات
الإرهابية.
ولا تزال فكرة قيام العناصر المتطرفة بمحاولة دمج نفسها داخل البنية المجتمعية
الأوروبية بهدف تفادي الرقابة الأمنية أمرًا واردًا للغاية، على أن تقوم هذه العناصر
بممارسة نشاطها لاحقًا من أجل تهديد الأمن الأوروبي، الأمر الذي قد يشكل تهديدًا
جوهريًّا للأجهزة الأمنية الأوروبية التي قد تقف القوانين المحلية حائلًا دون التعرض
لهذه العناصر، خاصةً أن العديد من القوانين داخل الدول الأوروبية لا تجرم قيام
مواطنيها بالقتال مع تنظيمات متطرفة أو خارج أراضيها، ما يعني أن فرض رقابة أمنية
على هذه العناصر يتطلب تشريعات جديدة، وهو الأمر الذي قد يستغرق وقتًا طويلًا، ناهيك
عن أن تطبيقه هذه القوانين في حالة إقرارها بأثر رجعي قد يشكل إشكالية أخرى.

استراتيجية
مضادة
لا
شك أن أجهزة الأمن الأوروبية تُدرك خطر العناصر المتطرفة القادمة إلى أراضيها، ما
يعني أن هذه العناصر سوف تكون مراقبة طوال الوقت، إلا إذا كان العنصر المتطرف لدية
من الكفاءة الاستخبارية ما قد يمكنه من تجنب تنصت أجهزة الأمن عليه. علاوة على
ذلك، سوف تتعامل مع مواطنيها العائدين من بقاع الصراع بشكل منفرد، وفق استراتيجية
قُطرية تتلاقى مع قوانينها الداخلية.
بعبارة أخرى، بعض الدول قد تلجأ إلى إقرار تشريعات جديدة بهدف تقنين مراقبة داعشيِّ أوروبا، لكي تتجنب بذلك النقد الموجه من المدافعين عن حقوق الإنسان، والذين يتخوفون دومًا من فكرة قيام الدولة بمراقبة فرد خارج إطار القانون. كما قد تلجأ دول أخرى إلى إقرار تشريعات جديدة بهدف تجريم الانضمام إلى جماعات مسلحة خارج حدود الدولة. وبذلك، يتبقى فقط تطبيق هذه القوانين بأثر رجعي من أجل محاكمة الأوروبيين الذين انضموا لداعش؛ حيث قد تلجأ دول إلى تقييد الأثر الرجعي بعدة أعوام سابقة من أجل توفير الإطار القانوني بهدف محاكمة داعشي أوروبا.
بالتوازي
مع الإجراءات القانونية التي قد تتخذها الدول الأوروبية، سوف يتم انتهاج سياسات
دمجية في بعض البلدان بهدف إعادة تأهيل المتطرفين مرة أخرى. ويُعد هذا الأمر ذا منفعة ثنائية؛ فسوف تساهم عملية الدمج في تقليل خطر المتطرفين على المجتمعات
الأوروبية. علاوة على ذلك، بإمكان الحكومات الأوروبية استخدام لتجارب هؤلاء
المواطنين كدعاية مضادة للدعاية الاستقطابية للمتطرفين التي تنشط على وقع استغلال
أوضاع المسلمين في الغرب. وفي سبيل تحقيق ذلك، يتعين على الدول الأوروبية إنشاء
مراكز تأهيل فكري خاصة بالمتطرفين بصفة خاصة، ومن أجل مواجهة انتشار الفكر المتطرف
بصفة عامة.
وفي
النهاية، يتعين علينا أن نشير إلى أن الموقف النهائي بشأن كيفية التعامل مع القادمين
من داعش لم يتحدد، حيث لا تزال الدول الأوروبية تخوض مشاورات ثنائية متبادلة بهدف
الوصول لأمثل الحلول. وفي ذلك، قد دعا العديد من الساسة الأوروبيين إلى احتجاز
العناصر الداعشية، لما يمثلونه من خطرٍ داهمٍ على المجتمعات الأوروبية. ولا تزال
قضية أبناء داعشيِّ أوروبا الذين ولدوا في مناطق النزاع في الشرق الأوسط قائمة؛ حيث
تذهب بعض الآراء في ضرورة استضافتهم كونهم ولدوا لمواطنين أوروبيين، بينما يرى
البعض الآخر أنهم والدوا خارج أوروبا لعناصر متطرفة، ما يعني أن عودتهم قد تمثل
خطرًا على أوروبا.
للمزيد: «التجربة الدنماركية» في محاربة التطرف .. برامج تنتظر
الاختبار
[1] عبدالله
مصطفي، العائدون من داعش إلى أوروبا.. قنابل موقوتة تثير الرعب، الشرق الأوسط،
https://aawsat.com/home/article/818221/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%A6%D8%AF%D9%88%D9%86-%D9%85%D9%86-%C2%AB%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4%C2%BB-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D9%82%D9%86%D8%A7%D8%A8%D9%84-%D9%85%D9%88%D9%82%D9%88%D8%AA%D8%A9-%D8%AA%D8%AB%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B9%D8%A8
[2] Tim Meko, Now that Islamic state
has fallen in Iraq and Syria, where are all its fighters going?, Washington
post, https://www.washingtonpost.com/graphics/2018/world/isis-returning-fighters/?noredirect=on&utm_term=.2b68127237c2
[3] Amandine
Scherrer, The Return of Foreign Fighters to EU Soil, The European Parliamentary
Research Service, http://www.europarl.europa.eu/RegData/etudes/STUD/2018/621811/EPRS_STU(2018)621811_EN.pdf