إيران.. تسخير «التشيع» في سبيل «التوسع» (1-3)
الإثنين 13/أغسطس/2018 - 02:43 م

أحمد سامي عبدالفتاح
سعت إيران منذ صعود رجال الدين الشيعة إلى سدة الحكم عام 1979، في أعقاب الثورة الإسلامية على نظام الشاه، إلى التمدد غربًا من أجل استعادة الأمجاد الفارسية القديمة، وأدركت «طهران« أن أي محاولة لممارسة النفوذ على الدول المجاورة وفق رؤية قومية فارسية يحتاج إلى انتهاج خطاب طائفي مذهبي؛ من أجل استمالة الأقلية الشيعية، الموجودة بالفعل، في البلدان العربية، مستغلةً بذلك الفتور الشعبي من فكر الشيعة، والإقصاء الحكومي المتعمد لهم؛ نتيجة تضارب فكرهم في الكثير من الأمور مع الثوابت الدينية للإسلام.

ولكي تحكم إيران اختراقها الفكري للعقول الشيعية العربية، عمدت بالأساس إلى التشويه على انتمائهم القومي لأوطانهم، ومثّلت حملات التغريب المجتمعي والإعراض الحكومي عن دمجهم مدخلًا للتحريض الإيراني الذي عكف يروج دومًا للعنف، محاولًا إقناع الشيعة باستخدامه كوسيلة لإثبات ذواتهم المرفوضة مجتمعيًّا.
كما استفاد النظام الإيراني من عدم إقرار الحكومات العربية لآليات ردع فكرية؛ بهدف تحصين مواطنيها من محاولات الغزو الفكري؛ ما جعلهم فريسةً سهلةً لأي محاولة خارجية تهدف إلى تطويع أفكارهم، أو التشويش عليها.
وقد أحدث الخطاب الاختراقي الإيراني صدًى كبيرًا داخل البلدان العربية؛ لدرجة أن ولاء الشيعة قد تحول بشكل كبير من القومية العربية إلى إيران، التي أصبحت تمتلك سلطة مطلقة في توجيه أفعالهم بما يخدم مصالحها التوسعية في المنطقة بغض النظر عن تباعدها الجغرافي مع هذه المجموعات أو القيود الحكومية المفروضة على العناصر الموالية لها.
وفي سياق مواز، انتهجت إيران آليات سياسية، غير دينية، لتدعيم قوتها الناعمة الهادفة إلى التأثير على التوجهات السياسية للمسلمين السنة؛ بهدف تعميق اختراقها للمكون الشعبي العربي الذي يتسم في حالات كثيرة، بنوع من التناقض مع الأنطمة الحاكمة، خاصةً فيما يتعلق بمدى قدرته على تحديد الأولويات المرحلية، ويفسر ذلك إصرار إيران المستمر على إظهار نفسها كداعم للتطلعات الشعبية التي لا تضعها الحكومات العربية نصب عينيها، خاصةً فيما يتعلق بسيادة القرار الداخلي، وتقييد النفوذ الأجنبي الغربي في المنطقة.
وفي هذا الإطار، تسعى هذه الدراسة إلى التطرق إلى الأفكار الرئيسية، الدينية وغير الدينية، التي يعتمدها الخطاب الطائفي الإيراني؛ من أجل تعميق تأثير قوته الناعمة، علاوة على مدى اتساق هذه الأفكار مع الأفعال الإيرانية على أرض الواقع، كما ستتناول الدراسة آليات المواجهة العربية.
الترويج لإسلامية الثورة
تروج إيران دومًا لإسلامية ثورتها التي قامت في 1979 ضد نظام الشاه، والذي كان مواليًا ومدعومًا من الغرب، وقد لعب الرفض الغربي للثورة الإيرانية دورًا في تغليب النمط العدائي على التوجهات الخارجية لسياسات الثورة، قبل أن تعتمدها الأخيرة كوسيلة للبقاء؛ من خلال تعظيم المهددات الخارجية؛ ما ساعدها على توحيد الصف الداخلي، وتوليد شرعية مذهبية لقمع الأصوات الليبرالية التحررية.
وتعمدت إيران إلصاق صفة «إسلامية» بثورتها، رغم كونها شعبية، لتتمكن من ترسيخ أركانها أسفل مبررات دينية، إضافةً إلى سعيها للاستفادة من النزعة الدينية الطاغية في المجتمعات العربية آنذاك، والتي تكونت في مرحلة «ما بعد الاستعمار» كرد فعل على السياسات الإمبريالية التي هدفت بالأساس إلى تغريب المجتمع عن قيمه الشرقية وثوابته الدينية.
ونجد أن المحاولات الغربية التي هدفت إلى مواجهة الجماعات الإسلامية الآخذة في الانتشار في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي- من خلال دعم الأنظمة العلمانية في انتهاج مسار تحرري من أي قيود مجتمعية أو ثوابت دينية- قد شكّلت مادةً خصبةً في تعبئة النزعة الدينية لدى الشباب؛ ما سهل استقطاب التنظيمات الإسلامية لهم لاحقًا.

وقد استفادت إيران عامةً من بزوغ نجم الجماعات الإسلامية والتي تعاطفت مع ثورتها؛ أملًا في تلقي الدعم اللازم للقيام بثورات شبيهة في المنطقة، ويعد ذلك أحد أسباب التبني الإيراني لفكرة «تصدير الثورة»، إضافةً إلى دوافع أخرى تتعلق بسعي إيران لفرض نفوذها على دول الجوار؛ بما يضمن لها تحييد الخطر الغربي، وقد تحركت إيران في هذا الإطار سعيًا منها لترسيخ نظامها السياسي الوليد المتمثل في «ولايه الفقيه».
وبالنظر إلى واقع الثورة الإيرانية، نجد أن الأداة الإعلامية لنظام ولايه الفقيه قد تعمدت تزييف واقع الثورة، التي كانت في حقيقتها شعبية وليست إسلامية؛ حيث ثارت كل الطوائف المجتمعية ضد النظام انطلاقًا من دوافع مختلفة.
ومن الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أن نظام الشاه «رضا بلهوي» كان في طبيعته سلطويًّا ذا فكر علماني، إضافةً إلى نزعته القومية الفارسية؛ ما يعنى أنه قد انتهج سياسة «متعددة الدوافع» في تعامله مع الحركة الاحتجاجية ضده، فعلى سبيل المثال، قام نظام الشاه بإقصاء «الشيعية الليبرالية»- وكان يقودهم مهدى بازركان أول رئيس وزراء في حكومة الثورة - من أجل الحفاظ على سلطويته واحتكاره للسلطات.
كما قام نظاه الشاه بتقييد أنشطة «الشيعية الدينية»- وكان يقودها رجال الدين التابعين لروح الله الخميني مثل هاشمي رفسنجاني وعلي خامنئي- من أجل الحفاظ على علمانيته التي خولته الحصول على الدعم الغربي، ولا يمكننا أن نغفل أن إقصاء النظام للأقليات العرقية مثل العرب والأكراد والبلوشستان قد نبع من نزعته الفارسية التي سعى إلى الحفاظ عليها وتعظيمها.
في مرحلة ما بعد الثورة، سعى النظام الإيراني إلى احتواء الفئات الثورية الفاعلة، فاعتمد الانتخابات آلية رئيسية في الحكم لإرضاء الليبرالين، كما ركّز السلطة بيد الولي الفقيه اتساقًا مع رغبة الأكثرية الشيعية آنذاك، إضافةً إلى إقراره بحق المذاهب السُّنية في ممارسة شعائرها الدينية، ورغم ذلك لم يتمكن النظام الإيراني من تحقيق مبتغاه، حيث قفز السنة بقيادة «أحمد مفتي زادة» من مركب الثورة بعدما أقر البرلمان الإيراني «الجعفرية الشيعية» دينًا رسميًّا في البلاد؛ ما يعني أن «الخميني» قد أخلف وعده للسُّنة بإقاة دولة إسلامية تشمل الجميع دون تفرقة بين المذاهب.
كما أن تركيز السلطة في يد الولي الفقيه همّش من رغبات الليبرالين الطامحين إلى تحقيق ديمقراطية على النموذج الغربي، ولكي يتغلب نظام الولي الفقيه على المعارضة الشعبية الداخلية، تعامل مع الثورة كحالة مستمرة وليست حركة احتجاجية عابرة أطاحت بالشاه وانتهت؛ ما خوله حق إقصاء الفئات التي يرى فيها عقبة في استمرارية حكمه.
واعتمد نظام «ولايه الفقيه» الذي نجم عن الثورة الإيرانية، في سلوكياته الخارجية أنماطًا مناقضةً لتلك التي تبناها نظام الشاه كآلية لترسيخ وجوده، فسعى للتقرب من الاتحاد السوفييتي، كما انتهج مسارًا عدوانيًّا ضد حلفاء نظام الشاه في المنطقة؛ من أجل ترسيخ وجوده، وخاصةً دول الخليج التي وضع السيطرة عليها ضمن أولوياته الخارجية.

مناصرة الأقليات الشيعية
تتبنى سياسة إيران الخارجية خطابًا مدافعًا عن حقوق الأقليات الشيعية في الوطن العربي؛ لدرجة أنها تحدد علاقاتها مع غيرها من الدول وفق الطريقة التي يُعامل بها الشيعة داخل هذه البلدان، وقد ظهر هذا جليًّا في اقتحام عدد من المتظاهرين الإيرانين السفارة السعودية في العاصمة الإيرانية طهران؛ ردًّا على قيام السعودية بإعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر في يناير 2016، كما يُظهر توتر العلاقات بين البحرين وإيران في أعقاب التظاهرات الشيعية البحرينية في 2011 اعتماد الأخيرة لأوضاع الشيعة كمدد رئيسي في تحديد نوعية تفاعلاتها الخارجية.
وتهدف إيران من دعم الشيعة العرب إلى تحقيق عدد من المنافع، أبرزها ترسيخ وجودها على الساحة الدولية كقائد للشيعة في العالم، إضافةً إلى ضمان تبعية العراق لها في النواحي الفكرية، خاصةً أن الأخيرة تملك من المقدسات الشيعية- مرقد الإمام علي ونجله الحسين في كل من النجف وكربلاء على التوالي- ما يمكنها لمنازعة إيران قيادة الشيعة في العالم.
ولا يمكننا أن نغفل عن الرغبة الإيرانية باستخدام هذا النمط من التفاعلات الخارجية في تعميق إيمان الشيعة بفكرة ولايه الفقيه؛ ما يسهم في اختراق البنية المجتمعية للبلدان العربية وعزل المكون الشيعي عنها؛ من أجل تحويل ولائه لإيران.
وفي سياق متصل، تستغل إيران غياب مشروع فكري عربي هادف لترسيخ الهوية القومية في نفوس الشيعة- من خلال دمجهم مجتمعيًّا، ومعالجة أفكارهم التي تشذ عن التوافق المجتمعي العام- لتقنع الشيعة بضرورة اللجوء إلى العنف كوسيلة لإجبار دولهم على الانصياع.
لكن الواقع يثبت عكس الادعاءات الإيرانية؛ حيث تنتهج إيران سياسة «الاستغلالية المرحلية» في تعاملاتها مع الشيعة، ويُقصد بذلك، أنها تقوم بدعمهم؛ من أجل تحقيق منفعة مرحلية، وبمجرد أن تتحقق الغاية، تظهر نزعة إيران الفارسية، وتبدأ في استغلال المقدرات الاقتصادية للشيعة الذين ادعت دعمهم من قبل.
وقد تحقق ذلك في العراق صاحب الأغلبية السكانية الشيعية، والذي تتعامل معه إيران كمنطقة نفوذ تقليدية، كونه كان تاريخيًّا جزءًا من الإمبراطورية الفارسية؛ حيث ذكرت تقارير في 2015، قيام إيران بسرقة النفط العراقي الواقع في آبار حدودية بين البلدين بمعدل 380 ألف برميل يوميًّا، من آبار في محافظات ميسان والبصرة وديالي والعمارة والبصرة، لتمول بعائداتها المالية حروبها التوسعية في المنطقة.
وتتجلى النزعة الفارسية بوضوح في قيام إيران بافتتاح مدرسة مجانية في محافظة البصرة، جنوبي العراق، في يونيو 2013 لتقدم من خلالها خدمات تعليمية مجانية للمرحلتين الابتدائية والإعدادية، على أن تتضمن مناهج التدريس تعليم اللغة الفارسية وتدريس المذهب الشيعي، كما تعمد إيران إلى استغلال معاناة العراقين، من خلال قيامها بإنشاء دور للأيتام، ومن ثم تقوم بتدريس اللغة الفارسية؛ ما يكشف اتخاذها للمذهب الشيعي وسيلة لترسيخ هيمنتها القومية على العراق.
وتبرهن السياسة الإيرانية في سوريا النزعة الفارسية لإيران والمستترة خلف غطاء مذهبي شيعي؛ حيث استخدمت إيران دعاوى دينية، مثل سعي المتطرفين لتدمير مرقد السيدة زينب في العاصمة السورية دمشق لتتمكن من تعبئة الشيعة وحشدهم للدفاع عن حليفها النظام السوري.
ولا يمكن للدعاوى الإيرانية المذهبية أن تغير من حقيقة الصراع في سوريا الذي يعد في المقام الأول سياسيًّا ذا منفعة اقتصادية؛ حيث ترغب إيران من وجودها بسوريا ضمان ممر بري يسمح لها بنقل بضائعها إلى البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان؛ ما يعني قدرتها على تأمين أسواق جديدة تساعدها على تقليل أضرار أي قيود اقتصادية دولية قد تفرض عليها في المستقبل؛ بهدف الحد من سيادة قرارها الداخلي.
كما ترغب إيران في تأمين طرق إمداد حزب الله اللبناني بالسلاح عن طريق النظام السوري لتشكل بذلك تهديدًا مباشرًا لإسرائيل تثبت به قوتها على نقل أي معركة معها إلى خارج أراضيها.
هوامش
(1) الجزيرة نت، الثورة الايرانية: الطريق إلي ولايه الفقيه، http:www.aljazeera.netencyclopediaevents2016105%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%AC%D9%85%D9%87%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D9%8A%D9%87
(2) الجزيرة نت، شيعة العراق، http:www.aljazeera.netspecialfilespages3730fdd7-4298-437a-8513-1356cdb7230d
(3) عبدالله الثويني، إيران تنهب نفط العراق لتمويل مصالحها، العربي الجديد، https:www.alaraby.co.ukeconomy7005326c-8f3d-4826-9ed9-1e5c3b9ea6b0
الشرق الأوسط، إيران تدرس أفكارها من خلال مدارس ودور أيتام في جنوب العراق، https:aawsat.comhomearticle419781%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D9%86%D8%B4%D8%B1-%D8%A3%D9%81%D9%83%D8%A7%D8%B1%D9%87%D8%A7-%D9%85%D9%86-%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%84-%D9%85%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%B3-%D9%88%D8%AF%D9%88%D8%B1-%D8%A3%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82