تعددت العوامل والتطرف واحد .. أسباب صناعة الموت
السبت 07/يوليو/2018 - 06:12 م

أحمد سامي عبدالفتاح
مقدمة
تضم التنظيمات المُتطرفة أفرادًا ذوي خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة، وذلك بفعل أدواتها الاستقطابية الفاعلة التي تنشط على استغلال نوعية الخلل الذي تعاني منه الطبقات المجتمعية المختلفة. ولهذا تختلف فاعلية هذه الأدوات من مكان لآخر نتيجة تباين الإشكاليات الطبقية التي قد تسهل عملية الاستقطاب في مكان ما، في حين قد تقاومه في مكان آخر.
إضافة إلى ذلك، نجد أن هناك عوامل غير اجتماعية (سياسية، وقومية، ودينية، واقتصادية) تدفع نحو ابتكار وإعادة إحياء أفكار قديمة متطرفة، ولا يمكن أن نغفل عن العوامل المتعلقة بالفكر الفردي للشخص الذي ربما قد يعاني من إشكاليات سيكولوجية تدفعه نحو انتهاج العنف كوسيلة لإشباع رغباته الداخلية.
وبصفة عامة لا يمكننا أن نحصر التطرف في الأنشطة المسلحة؛ حيث إن له جانبًا فكريًّا نشطًا يستقطب الأفراد ويزرع فكرة التمرد في عقولهم من زوايا سياسية أو دينية، قبل أن يُطالبهم بتحويل هذه الفكرة إلى واقع ملموس ذي أثر ضار علي النظام السياسي القائم. ولو تدخل المجتمع في الوقت المناسب من خلال برامج تأهيلية تهدف إلى تمدين العنصر المتطرف أو الحامل لفكرة متطرفة لتمكن من دحر التطرف في بداياته وبمجهود أقل من ذلك الذي يُبذل لاحقًا لوقف عدوى انتشاره بين أفراد المجتمع.
ورغم الأنواع المختلفة للتطرف المسلح (منهما ما هو قومي أو ديني)؛ فإن جميعها يتفق على استهداف المدنيين كوسيلة لإثبات فشل النظام القائم وإرباكه، من خلال الضغط الشعبي المفروض عليه لإنجاز وظائفه الأمنيَّة على نحو أفضل، في محاولة منه لخلق نوع من التمرد الشعبي العام. بجانب هذا، نجد أن الفشل المجتمعي في تكوين أداة ردع فكري لمواجهة فكر التطرف الاختراقي لمكونه الشعبي المهمش، من خلال تقديم رؤية نقدية لأفكاره العنيفة وآلية عملها، يُعد عاملًا مساعدًا لتنشيط آليات عمل التنظيمات المتطرفة.
ولذا تسعى هذه الدراسة إلى التطرق إلى نوعية العوامل المختلفة التي تؤدي إلى بزوغ التنظيمات المتطرفة في مجتمعات دون أخرى، إضافة إلى التعاطي الشعبي والحكومي مع مثل هذه الأفكار، وكيف بإمكان المجتمع أن يكون عائقًا أمام تمدد أي أفكار مشبوهة لمنظومته الفكرية.

أطفال داعش يقتلون عناصر
العامل السيكولوجي
يلعب الخلل النفسي دورًا مهمًا في تليين المقاومة النفسية الداخلية التي يكونها الفرد ضد ميوله الفطرية نحو ممارسة العنف المجتمعي، قبل أن يُطرح خيار الاستسلام والانسياق كأمرٍ حتمي لابد من اتباعه كوسيلة لتحقيق الرضا الذاتي. ورغم أن الإرهاب يمتلك أنواعًا عديدة (إرهاب أيديولوجي وغير إيديواجي). ورغم أن هذه الأنواع تختلف في طريقة التكوين وتنفيذ الاعتداءات، فإنها تتشابه في ظواهرها العنيفة وعدد من مسبباتها الرئيسية التي تتضمن العامل السيكولوجي بما يتضمنه من خلل دفاعي.
يتولد الخلل الدفاعي الداخلي من اللاشعور، الناتج عن الكبت الطفولي، عند الفرد. ويتكون الكبت كنتيجة للسلوك السلطوي الذي يُمارس على الطفل نتيجة أنماط السلوك المجتمعية غير القويمة داخل المؤسسات التربوية كالمدرسة أو الأسرة، أو من خلال الصداقات الشخصية الخاصة بالطفل التي قد تتضمن عنصر الإجبار على أفعال تناقض كرامة الطفل، ما يؤدي إلى تكوين كراهية داخلية تظل مكبوتة لفترة ما قبل أن تجد طريقها متاحًا للخروج.
إضافة إلى هذا، نجد أن أنماط السلوك السلطوية قد تؤدي إلى تكوين إحباط داخلي نتيجة عدم تحقيق الرضا الذاتي الذي يتولد نتيجة السعادة بإثبات الذات، ما يؤدي لاحقًا إلى خروج الفرد عن النظام المجتمعي أو العادات والتقاليد واتباع محاولات أخرى غير شرعية لإرضاء ذاته التي عانت النكران المجتمعي.
ولا يمكن أن نتجاهل الدوافع التدميرية المتأصلة داخل الفرد، لما لها من دور محوري في دفع الأفراد لاقتراف سلوكيات عنيفة مثل «غريزة الموت» التي تظهر من خلال تلذذ أفرادها بالقتل والتشهير بالجثث؛ حيث نجد أن أصحاب هذه الغريزة يلجؤون إلى تصريف شحناتهم الداخلية العنيفة من خلال ممارسة أقصى درجات العنف التي تحقق لهم شعورهم المفقود بالرضا الذاتي، وقد يكون هذا العامل أخطر العوامل النفسية، رغم أنه أسهلها في الاكتشاف، بسبب اتسام حامليه بحالة من اللامبالاة تجاه المجتمع ومعاناته.
كما أنه يستغرق وقتًا أطول، في العلاج، من الحالات التي تأتي كنتيجة لمسببات أخرى بسبب طبيعته الغريزية التي تعد مسببًا رئيسيًّا في ضعف المتلقي الاستجابي لمحاولات الاخترق الخارجية.
أيضًا، يعد هذيان العظمة عاملًا محفزًا نحو لجوء الفرد لارتكاب الفعل الإرهابي نتيجة رغبته في القيام بأي شيء يجعل منه بارزًا داخل المجتمع. هل النوع تحديدًا يقف ضد فكرة المُساواة المجتمعية لأنه يرى أنها تأتي بنتائج سلبية على وضعيته المجتمعية التي تستحق إعادة تموضع بسبب قدراته العقلية. ولهذا قد يحاول هذه الفرد القيام بمحاولات عدة لإثبات أحقيته بوضعية قيادية أفضل داخل المجتمع، وبعد أن يستنفد محاولاته يلجأ إلى وسائل عنيفة ليس فقط لإثبات الذات وتحقيق هدفه المتعلق بالنفوذ المجتمعي المرغوب، ولكن أيضا لتحقيق انتقام شخصي من بيئة أعاقته عن تحقيق النجاح.
ويجب ألَّا نغفل أن الأمراض النفسية مثل الوساوس القهرية التي تجعل الفرد يأخذ على محمل الجد كل السلوكيات المجتمعية على نحو عنيف مقصود به الإيذاء. هذا الفرد لن يتوانى لحظة واحدة في مهاجمة المجتمع كرد فعل لهذه الأفكار التسلطية التي غزت عقله وسيطرت عليه. كما أنه لن يشعر بندم أبدًا كونه قام برد فعل من وجهة نظره.
وهناك عدد من الأمراض النفسية الأخري التي قد تدفع الفرد نحو ممارسة العنف، مثل «حالة الفصامين»؛ وهم الذين يعانون من حالة نفسية تفصلهم تمامًا عن الواقع وتجعلهم يشعرون بأنهم يعيشون في مكان آخر، مما يجعل الأمر هينًا عليهم بممارسة العنف، أو الاضطراب في الشخصية، أو التطرف في المشاعر السلبية.
إلي جانب ما سبق، نجد أن بعض الأشخاص يعانون من إشكاليات نفسية تندثر فيها «الأنا الشخصية»، وتذوب في وعاء «الأنا الجماعية». هذا النوع يتسم بالنكران للهوية الذاتية ويُعرف نفسه من خلال الأعمال الجماعية للمجتمع الذي يقطن فيه. ولهذا، يعد فشل آلية المجتمع الاستيعابية مبررًا كافيًا لدفعهم نحو التنظيمات المتطرفة التي تمنحهم من وسائل العمل الجماعي ما يحققون به ذاتهم الجماعية التي تدفعهم للتفاني والتضحية بحياتهم من أجل حفظ كيان التنظيم؛ كونه وسيلتهم الوحيدة للنجاة المجتمعية.

العامل الاجتماعي والاقتصادي
قد يكون المجتمع عاملًا مهمًا في دفع أفراده نحو التطرف دون أن يدرك ذلك، رغم المجهود العام الذي يبذله من أجل مواجهته، بسبب إشكالياته العامة العالقة، والتي تُسبب استياءً عامًا بين المواطنين مما يولد لديهم رغبة عامة بتغير السياسات الإدارية القائمة بسبب فشلها في تلبية الرغبات الشعبية المرجوة.
ويعد غياب العدالة الإجتماعية دافعًا قويًا للأفراد لممارسة العنف بشكل دموي من أجل تغيير سياسة الأمر الواقع أو إجبار النظام الحاكم على تبني سياسة مغايرة لتلك القائمة والتي أدت إلي تعميق الفروقات الطبقية، إضافة إلي حرمان فئة شعبية كبيرة من حقوقها الاجتماعية الأساسية والتي يعد إلزامًا على الدولة توفيرها. ويعتقد الأفراد الذين ينجرون للعنف نتيجة غياب العدالة الاجتماعية أنهم يؤدون منفعة كبرى للمجتمع بإظهارهم للغضب الدفين بين ثنايا فئاته الأكثر تضررًا. ولهذا، فإنهم يتفانون في عملهم العدواني، ويقدمون أنفسهم كنصير للطبقة الشعبية المهمشة.
أيضًا، قد نجد أن فئات مجتمعية (قد يتم تمثيلها من خلال شخص) تستحوذ علي الموارد المالية ذات الأهمية داخل دولة معينة من خلال السيطرة على المناصب القيادية ذات النفوذ، والتي تتعمد التغاضي عن معاناة الفئات المجتمعية المهمشة لصالح الفئة الأكثر رخاءً، مما يمثل إشكالية في آلية توزيع القوى المجتمعية، والتي قد تكون مبررًا كافيًا للتنظيمات المتطرفة لاستقطاب الأفراد بدعوى مقاومة الهيمنة الطبقية.
إضافة إلي ذلك، نجد أن تدني المستويات التعليمية في بعض البلدان وما يرافقها من نقص للوعي الفردي قد يكون عاملًا محفزًا أمام التنظيمات المتطرفة لتكثيف عملها الاستقطابي الذي يتغذى بشكل رئيسي على الجهل وقلة المعرفة. ولذا نجد أن هذه التنظيمات تنشط بشكل رئيسي في البلاد التي تعاني من إشكاليات تعليمية؛ كبلدان الشرق الأوسط ووسط آسيا، في حين تجد صعوبة لاختراق البنية الاجتماعية المترابطة لبلدان أوروبا. وعلى هذا، نجد أن هناك ترابطية عكسية بين معدلات التنمية البشرية وبين الميول الفردية للتطرف، فكلما قل هذا المعدل داخل المجتمع، زادت قدرة التنظيمات المتطرفة في التأثير على أفراده.
كما تمثل ظاهرة البطالة أو الحرمان الوظيفي مسارًا محفزًا لسلوك أفرادها بانتهاج وسائل احتجاجية شعبية لإظهار مدى معاناتهم لمن يتحكمون في مسار توزيع السلطة داخل الدولة. وقد يتم ذلك من خلال مسار احتجاجي سلمي، أو باتباع مسار عنيف ضد الدولة ومؤسساتها. ورغم أن معظم المواطنين، في واقع الأمر، يولون اهتمامًا بالغًا بالسياسات الاقتصادية عن الأخرى المتعلقة بالجوانب السياسية، فإن سوء نتائج الأولي يدفعهم للتفكير بشأن إدارة الثانية. وقد ظهر هذا جليًا أثناء الربيع العربي، والذي بدأ كحركة احتجاجية ذات توجه اقتصادي، لكنه ما لبث أن اتسعت رقعة مطالبه لتشمل إصلاحات سياسية، ما أدى لاحقًا إلي أعمال عنف تمت من خلال مهاجمة مقار حكومية وأمنية لإخضاع دول الربيع لمطالبهم.
ولهذا، تمتلك آلية توزيع الدخل القومي علاقة غير مباشرة مع دفع المواطنين لتبني أفكار متطرفة تجاه دولهم. ورغم أن هذه الآلية تختلف من مكان لأخر، لكنها يجب أن تراعي الفروقات الطبقية داخل المجتمع، ويتم توزيعها من خلال أنماط اقتصادية تحقق العدالة الاجتماعية بتقديمها لمستوى متكافئ من الخدمات الاجتماعية. ويظهر هذا جليًا في دولة مثل الإمارات والتي تحتل خدماتها الاجتماعية مرتبة متقدمة بين دول العالم، مما أدى إلي تلاشي النزعة المجتمعية العنيفة ضد الدولة بعد أن نجحت في احتوائهم من خلال تحقيق رغباتهم المرجوة. ولذا نرى أن وجود الإماراتيين في التنظيمات المتطرفة لا يكاد يذكر بالمقارنة بدول أخرى تعاني خللًا توزيعيًّا في خدماتها رغم المواد الخدمية التي تمتلكها.
إضافة إلى هذا، نجد أن الفقر يمتلك علاقة غير مباشرة مع عملية صنع التطرف، وذلك من خلال توليده حالة إحباط عامة بين المواطنين، مما يؤدي لاحقًا إلى نزع فكرة الإيمان بدور الدولة الفعال في المجتمع. وقد يدفع الإحباط المتولد نتيجة لذلك (بعد أن يصل إلى مستويات مرتفعة) أفراده إلي ممارسة أنشطة عنيفة بعد أن يتم تحريف عقولهم السوية بفعل الآلة الإعلامية للتنظيمات المتطرفة التي تقدم نفسها كنصير لقضيتهم.
بناءً علي هذا، نجد أن الفقر يخلق بيئة خصبة لتمدد الفكر المُتطرف بين أفراد الطبقة الأقل دخلًا، لكنه رغم ذلك يظل في حاجة لعامل منشط لضمان تغيير المسار السوي لبعض الأفراد؛ فعلى سبيل المثال، نجد دولًا مثل الهند أو عدد من دول أفريقيا تمتلك مستويات مرتفعة من نسب الفقر، لكنها رغم ذلك لا تعاني من وجود تنظيمات متطرفة بسبب غياب العامل التحفيزي اللازم لدفع الأفراد نحو العنف.
كما تعد الخدمات المالية التي تقدمها التنظيمات المتطرفة لمقاتليها عامل جذب لأفراد آخرين، حيث إن التنظيم يتحمل عن مقاتليه الدخل اليومي، إضافة إلى توفير المأوي السكني ومتطلبات الزواج التي تعد عائقًا أمام الطبقات الأقل دخلًا و التي تعاني من الفقر المدقع. فعلي سبيل المثال، ورد في تقرير لخدمة البحث بالكونجرس الأمريكي أن «داعش» يقدم رواتب شهرية لمقاتليه تتراوح بين 400 و 1200 دولار، إضافة إلي 50 دولارًا عن كل زوجة، و 25 عن كل طفل، ومسكن ووقود بالمجان، ورغم المخاطر الأمنية التي تحيط بعملية الالتحاق بالتنظيمات المتطرفة فإن الفقر المدقع وفقدان الأمل في تحسين الدولة لأوضاعم مستقبليًا لم يترك لهم إلا أن يُغامروا بحياتهم التي فقدت الشعور الوطني بذاتها.

العامل الديني
يعد الدين أحد أهم الأدوات التي يتم استخدامها من أجل حشد الأفراد لممارسة العنف بدعوى الدفاع عن حقهم في ممارسة العقيدة. وقد لوحظ في الفترة الأخيرة تصدر العنف الديني لساحة التطرف العالمي على حساب العنف القومي أو الانفصالي أو الأنواع الأخري التي تستند لأسباب طبقية أو ثقافية. كما يعد الدين ظاهرة اجتماعية في ممارساته كونه يفضي إلي علاقات تبادلية بين المؤسسات التي تمثله وبين الأفراد الذين يعتنقونه.
وينقسم التطرف الذي يعتمد على الدين في استقطابه لأتباعه إلي نوعين؛ أحدهما يهدف إلي تحقيق غاية سياسية وتتم الإستعانة بالدين لتدعيم موقفه، بينما الآخر يهدف إلى تحقيق غاية دينية مُثلي من الصعب أن يتم تحقيقها نتيجة للمتغيرات المحلية والإقليمية، إضافة إلي الدولية. ولذا فإنه يلجأ إلى العنف كوسيلة لتحقيقه بالقوة. ويمكننا أن نطلق على كل الصراعات التي يتم استحضار الدين إليها عنفًا سياسيًا، حتى تلك التي تقوم بها التنظيمات المتطرفة ذات المرجعية الدينية تندرج أسفل هذه القاعدة، كونها تتم بين تنظيم متطرف ذي هياكل تنظيمية تمارس عملًا عنيفًا يهدف إلي الإنقاص من سيادة الدولة القومية التي تقاتله بدورها هي الأخرى.
ويتضح ذلك من خلال سعي التنظيم المتطرف إلى السيطرة على بعض الأراضي أو المدن لإقامة دولته الدينية وفق أسسه الشرعية المُعتنقة، إضافة إلى منازعة أداته الفكرية للأدوات الإعلامية القومية.
كما تعد الجماعات المتطرفة القائمة علي أساس ديني أكثر تماسكًا من الأخرى التي بنيت على أساس قومي، ليس فقط بسبب الآلية الداخلية للإدارة والتي تعتمد علي تنفيذ أوامر القيادات دون نقاش، ولكن أيضًا بسبب عكوف التنظيمات المتطرفة على زرع فكرة التضحية بالدنيا من أجل الآخرة.
إضافة إلي ذلك نجد أن الدولة القومية قد تنجح في احتواء التنظيمات المتطرفة ذات المرجعية القومية من خلال عقد هدنة معها، أو من خلال التعهد بالبحث في مطالبها، أو حتي منح الإقليم الراغب في الانفصال حكمًا ذاتيًا. علي عكس ذلك، نجد أن التنظيمات المتطرفة الدينية لا تقبل بفكرة المهادنة إلَّا في وقت ضعفها كإستراتيجية بناءة لإعادة تجميع القوى وتحديد الأولويات. وبمجرد أن تنتهي من ذلك، تعاود هذه التنظيمات شن هجماتها من جديد بسبب رفضها لفكرة الدولة القومية والتي تري فيها عائقًا لابد من إزالته.
من الجدير بالذكر أن التنظيمات المتطرفة تعتمد في استقطابها للشباب على قوة المحتوى الديني الذي تقدمه أداتها الإعلاميَّة، والذي يهدف دومًا إلى تعبئة نفوس متابعيه من خلال إظهار مدى قوة التنظيم وصموده أمام محاولات وأده واستئصاله، إضافة إلي قدرته علي تحقيق غايته الدينية المُثلي، والتي تتعلق بإقامة دولة دينية. كما تعمد التنظيمات الإسلامية المتطرفة إلي عقد المقارنات بين فترة الأمجاد الإسلامية القديمة وفترة تفكك العلاقات البينية الإسلامية الحالية.
ومن أجل إحكام التنظيمات المتطرفة لاختراقها الفكري، فإنها تقوم دومًا باستحضار معاناة الشعوب الإسلامية في بقاع مختلفة من العالم، قبل أن تقدم نفسها كنصير لقضيتهم. ولا تغفل الآلة الإعلاميَّة عن إرجاع أسباب تدهور الأوضاع إلي سيطرة الإمبريالية العالمية علي أنظمة الحكم الإسلامية، مما يبرر الدعوى لمهاجمتها لاحقًا.
وهذا يفسر سبب لجوء التنظيمات المتطرفة إلى الاستعانة بقضية القدس لتدعيم مبرراتها وحربها على الدول الإسلامية، ليس فقط لمكانة القدس في نفوس المواطن العربي والإسلامي، ولكن لأنها القضية الوحيدة التي لا تحتاج إلى براهين مادية لإثبات مظلوميتها؛ فاحتلال القدس إضافة إلى العلاقات بين عدد من الدول الإسلامية وإسرائيل تعد سببا كافيا لدى هذه التنظيمات لإقناع البعض بضرورة الالتحاق بصفوفها.
ومن الملاحظ أن التنظيمات المتطرفة تدرك دوما توجه الميول الدينية للمواطن العربي التي تضعه دوما علي الجهة الأخري من إسرائيل، ولذا فإن كل التنظيمات المتطرفة التي تسعى لأن يكون لها تواجد قوي في المنطقة، إضافة إلى زيادة قدرتها على جذب الأفراد، تسعى لمهاجمة إسرائيل وحلفائها الدوليين في إصداراتها المرئية المسموعة حتى وإن لم تتمكن من تنفيذ هجمات ضدها، لتتسلل بذلك إلى قلوب البعض من زاوية دينية تتعلق بالقدس وأخرى سياسية تتعلق بالتحرر من النفوذ العالمي.
فعلي سبيل المثال، نجد أن حزب الله ذا المرجعية الشيعية، المرفوضة عربيًا، يستخدم فكرة خوض حرب مع إسرائيل لكسب المزيد من الدعم داخل الرأي العام العربي، إضافة إلى استعانته لقضية القدس لتكوين حاضنة شعبية في الجنوب اللبناني.

العامل السياسي
تلعب العوامل السياسية المختلفة، مثل فرض الرأي الواحد وإقصاء الآخر، دورًا بارزًا في دفع الأفراد نحو تبني رؤى متطرفة تجاه الدولة القومية؛ حيث يعد غياب المساحة المعقولة من الحرية، اللازمة للتنفيس عن الغضب الشعبي العام، دافعًا نحو المزيد من الكبت السياسي الذي تُقدم له التنظيمات المتطرفة مخرجا نحو الواقع.
ومن الضرورة هنا أن نقوم بالتفريق بين نوعين من أنظمة الاستبداد السياسي، بسبب علاقتهما الوثيقة بدفع الأفراد لانتهاج مسارا غير قانوني للتغيير؛ حيث إن أحدهما يُغلق الطريق تماما أمام أي معارضة داخلية حتى وإن كانت هشة، بينما الأخر يُعد أكثر ذكاءً فيمنح قسطا صغيرًا من الحرية، مُحاطة بقيود جمة لئلا يتم تجاوزها، للرأي المضاد.
ونظريًا، يعد النوع الأول حافزا قويا للأفراد للتمرد على نظام الحكم القائم، على عكس الثاني الذي ينجح في تفريغ الطاقة السلبية المكبوتة داخل نفوس معارضيه. لكن عمليا، تتوقف مدى قدرة الرأي المضاد داخل كل نوع على التبلور في شكل تنظيمات إرهابية، تعادي القانون، على الأداء الأمني للدولة الذي إن تم على النحو المنوط به، فإنه سوف يشكل مانعا أمام بزوغ أي معارضة مسلحة.
وعلى سبيل المثال، نجد أن عددًا من دول الخليج تنتمي للنوع الأول، لكن أجهزتها الأمنية وعملها الاستخباري قد حال دون قيام أي نشاط يهدف للإخلال من الأمن العام. بالمقابل، نجد أن دولة مثل السودان، رغم أنها تنتمي أيضا للنوع الأول إلا أن أدائها الأمني الضعيف كان عاملا في نشأة حركات تمرد داخلية، مثل تلك التي نشأت في دارفور وبدأت نزاعا مع الحكومة السودانية في 2003 بشن هجمات على مقار أمنية للشرطة والجيش.
إضافة إلي هذا، نجد أن تجاهل الرغبات السياسية الشبابية بالتغيير بجانب فشل استيعابهم ضمن برامج سياسية تهدف إلى تأهيلهم في المشاركة الشعبية لتحديد الأولويات المجتمعية قد يعد عاملا محفزا لدى هذه الفئة الشبابية للاحتجاج بما يخالف القانون، مما قد يعمل لاحقا على توليد الرغبة في إنشاء هيئة تنظيمية تتولى قيادة العمل ضد الدولة.
وقد تتخذ هذه الهيئة شكلا سياسيا، مثلما حدث مع حركة 6 أبريل في مصر والتي تكونت عقب احتجاجات عمالية في مدينة المحلة في دلتا مصر عام 2008، أو قد تكون في شكل مسلح، مثل حركة «البلاك بلوك» والتي تكونت في 2012 في مصر أثناء الاحتجاجات الشعبية العارمة ضد حكم الإخوان.
إلي جوار هذا، نجد أن المظلومية العرقية أو الإثنية قد تُتخذ مطية لتكوين حركات مسلحة ضد الدولة. وفي هذا، نجد أن التنظيمات العرقية المسلحة لا تختلف عن التنظيمات الإسلامية، حيث إنها تستدعي المظلومية التاريخية لعرقهم، وتعقد المقارنات بين وضعيته في الماضي وتسرد الأسباب التي أدت إلي تدهور أوضاعه واحتلاله من أمة أخري في الحاضر، ثم تقوم بطرح الخيار المسلح كحلٍ أمثل عن المسار السياسي والذي قد تستغله الدولة كوسيلة لقتل القضية مع مرور الوقت.
خاتمة
رغم تعدد العوامل الدافعة نحو تبني الأفراد فكرا متطرفا، إلا أن فاعلية كل عامل تختلف من مكان لآخر وفقا للمؤثرات البيئية التي تتحكم في الجانب الإدراكي للفرد.
فعلي سبيل المثال، نجد أن الجانب المادي لا يظهر كثيرا في أوروبا بسبب الوضعية الاقتصادية الجيدة لدولها، إضافة إلى الإلزام الذي تضعه على نفسها بتحقيق مستوى مرتفع من الرفاهية الاقتصادية.
بالمقابل نجد أن العلمانية الغربية بأدواتها الفصلية لكل ما هو ديني، بغض النظر عن هويته الدين، تولد نوعا من الريبة لدى البعض في القيام بطقوسهم الدينية الخاصة.
ورغم أن مثل هذه الفعل قد يكون غير ممنوع قانونيا كونه يندرج أسفل حق العبادة الذي تقره القوانين الغربية، فإن الرفض المجتمعي العام الذي تولد كرد فعل للتفجيرات الإرهابية المتطرفة قد رسخ رفضا شعبيا لكل ما هو ديني، مما يؤدي لاحقا إلى بزوغ حالة احتقان داخل الأفراد ذوي الميول الدينية تجاه المجتمع. وقد يقوم أحدهم بعمل عنيف للتعبيرعن غضبه.
ومن الملاحظ أيضًا أن التنظيمات المتطرفة تعمل على استغلال الرغبة الفردية في ممارسة الشعائر الدينية بحرية تامة ودون أي ملاحظات شعبية لاستقطاب الأفراد الأوروبيين بعد أن تُقدم نفسها كنموذج مثالي للدولة الإسلامية المرغوبة.
ولا يمكن أن ننكر أثر الريبة المجتمعية، تجاه كل ما هو ديني، في توليد الشعور بالتغريب المجتمعي الذي تعمل التنظيمات المتطرفة علي تفعيله، لتولد منه شعورا بالحنين إليها، من خلال اصداراتها المرئية و المسموعة.
ومن الجدير بالذكر أن كثر من الأفراد الذين ينضمون للتنظيمات المتطرفة يذهبون إليها لرغبتهم في تحقيق غايات دينية حال الواقع دون تحقيقها. إضافة إلى هذا، نجد أن عددا ممن ينضمون للتنظيمات الإرهابية لا يدركون زيف مادتها الإعلامية إلا بعد الانضمام إليها، مما يدفعه للإنشقاق في حالة توفر الفرصة لذلك. وفي بعض الأوقات قد يكون تخوفه من رد فعل دولته الأم تجاه عودته سببا كافيا للاستمرار لدى التنظيم المتطرف. ويعد خوف الدولة من قدرة المنشقين عن التنظيمات المتطرفة لإحداث هجمات إرهابية عائقا أمام محاولات دمج الكثير منهم.
بالمقابل، نجد أن العامل المادي، الناتج عن سوء إدارة القيادة السياسية للمواد المالية القومية، يلعب دورا أكثر بروزا في عدد من دول الشرق، مثل تونس والأردن، واللتان يشاركان بأعداد كبيرة في تنظيم داعش وفقا لتقرير صدر عن المكتب القومي للبحث الاقتصادي بالولايات المتحدة. بالتدقيق في الوضعية الاقتصادية لهذه الدول سوف نجد أنها تعاني من إشكاليات اقتصادية جعلت المواطن، القابع في أسفل السلم الاجتماعي، لا يهتم بتكوين حصانة فكرية خاصة لتقيه من التطرف بقدر اهتمامه بتغطية نفقاته الأساسية التي فشلت الدولة في توفيرها، مما يسهل العمل الاستقطابي للتنظيمات المتطرفة كونها تقدم نفسها كمنقذ يسعى لانتشالهم من براثن الفقر.