الذئاب المنفردة.. أخطر التحديات في أوروبا

تُمثل التهديدات الأمنية إشكالية كبرى في وجه الدول الأوروبية، فبعد أن ولّت الحروب النظامية ذات البُعد القومي بفعل تأسيس الاتحاد الأوروبي، الذي اعتمد في هيكلته على سياسة شاملة احتوائية لكل العرقيات والأقليات الدينية، وجد الأوروبيون أنفسهم في مواجهة تحدٍ جديد تقوده التنظيمات المُتطرفة، ولكنه يختلف في آلياته عن تلك المُتعارف عليها في الحروب النظامية؛ حيث إن ساحات الحروب أصبحت التجمعات السكنية والتكتلات المدنية، ولم يعد المُستهدف منها أفراد الجيوش، الذين يتخذون تدابير أمنية تحول دون إيذائهم، بل أصبح قتل المدنيين وترويعهم بإحداث فزع عام في المجتمع هو الآلية الأكثر شيوعًا التي تنتهجها التنظيمات المتطرفة؛ لاختراق الأمن القومي لأوروبا، فبالتأكيد، رد الفعل المجتمعي سوف يكون أشد حدة نقدية تجاه الحكومات الأوروبية في حال استهداف المدنيين عن استهداف العسكريين، ناهيك عن صعوبة تحقيق الثانية.
وقد كثفت التنظيمات المتطرفة من عملياتها في أوروبا في الفترة الأخيرة، مُستغلة المناخ الديمقراطي السائد، إضافة إلى حالة الخصوصية التي يتمتع بها المواطن الأوروبي كجزء أصيل من حقوقه المدنية التي لا يجوز للأنظمة الحاكمة أن تتجاوزها بأي حال من الأحوال؛ حيث إن الثقافة الأوروبية في بنيتها القانونية ثقافة تحررية، لا تقبل القيود السلطوية تحت ذريعة تحقيق الأمن العام، بل تُلْزَم الأجهزة الأمنية بالبحث عن وسائل قانونية بديلة من شأنها أن تُحقق الأمن المجتمعي، وتَحُد من عمليات الترويع القومي العام دون المساس بالحريات الأساسية التي يكفلها الدستور والقانون.
من هنا نجد أن هناك فراغًا أمنيًّا واضحًا بين ما تقوم به الأجهزة الأمنية، وما تود القيام به، ولذا فإن التنظيمات المتطرفة عملت جاهدة على استغلال هذا الفراغ للتعمق في قلب المجتمع الأوروبي، وتنفيذ هجماتها الدموية، التي أظهرت في البداية قصورًا واضحًا من قبل أجهزة الأمن الأوروبية، قبل أن تتمكن من التعامل معها لاحقًا.
لكنّ، التنظيمات المتطرفة لا تيأس، بل لجأت إلى تكتيك «الذئب المنفرد»، الذي يعمل على تعبئة وتحفيز أولئك الذين يعانون من القهر والتهميش المجتمعي والتمييزٍ العرقي، أو ربما من فشل ذريع في إثبات ذواتهم في واقع عملي يمتلئ بالمصاعب والعراقيل والتحديات، فضلاً عن أولئك الذين شُوهت عقولهم بأفكار مُتطرفة، لتنفيذ هجمات ضد أوطانهم أو المجتمعات التي يعيشون فيها، والتي فشلت في احتوائهم، ما حتم عليها بعد ذلك، مواجهتهم بوسائل مختلفة تضمنت المراقبة الشخصية بأوامر قضائية.
وقد نجح تكتيك «الذئب المنفرد» في مُساعدة التنظيمات المُتطرفة على تجاوز القيود الأمنية المفروضة؛ بهدف الحد من الإرهاب، مُستغلة بذلك الهوية الغامضة لمُنفذيها، بسبب حداثة طُرقها وآلياتها المبتكرة، ما أحدث لاحقًا ربكة نوعية في صفوف الأمن الأوروبي، ولذا تسعى هذه الدراسة لاستبيان أسباب الظاهرة، إضافة إلى البدائل المُتاحة أمام الدول الأوروبية للتعامل معها، والتقليل من آثارها السلبية.
تعريف الذئاب المنفردة
ارتبط مفهوم الذئاب المنفردة منذ نشأته بممارسة العنف، ورغم أن بداياته لم تكن إسلامية؛ حيث استخدمه العنصري الأمريكي الشهير «توم ميتزجر» و«أليكس كيرتز» في التسعينيات من القرن الماضي، فإن التنظيمات الإسلامية المتطرفة قد اقتبست الفكرة، وأعادت إحياءها بتطبيق مُمنهج بما يخدم أهدافها العدوانية، خاصة بعد ثبوت فعاليتها كونها يصعب التوقع بها.
وتُعرف هذه الظاهرة بأنها مجموعة من الأفعال الفردية العدوانية التي يقوم بها أفراد بدافع شخصي أو عقائدي بهدف إلحاق أضرار جسيمة بالدولة أو المجتمع، وقد يكون الدافع وراء قيام البعض بمثل هذه الأفعال المُشينة اعتناقهم لفكرة مُتطرفة يقومون بتحويلها من فضاء التجريد إلى واقع مكبوتٍ بمجرد أن تُتاح لهم الفرصة، كما قد يكون الإقصاء المجتمعي أحد أسباب تفاقم هذه الأزمة، حيث قد يلجأ أولئك الذين يتجاهلهم المجتمع بديناميكيته المتغيرة إلى استهدافه بدافع انتقامي لإرضاء أنفسهم.
وقد برز في الآونة الأخيرة، قيام التنظيمات الإسلامية المُتطرفة، مثل داعش، بدعوة عناصرها في أوروبا للقيام بعمليات انتقامية، لكنها رغم ذلك لا تقوم بتوجيه أفرادها نحو أهداف معينة، وذلك لعدم وجود صلات تنظيمية تمكنها من فعل ذلك، ولكنها تعتمد في دعوتها على تفعيل الجانب المعنوي لدى عناصرها، أو لدى أولئك الذين لديهم قابلية للاستقطاب نحو التطرف، من خلال إصدار مرئي أو مسموع، يُؤتي ثماره لاحقًا.
وقد يقوم التنظيم المتطرف بنسب عملية يقوم بها ذئب منفرد بدوافع عنصرية أو دينية أو اجتماعية لإثبات مدى قوته، مُعتمدًا بذلك على رغبة الطرف الآخر -الذئب المنفرد- في إحراج الدولة المُستهدفة، ولذا فإنه رغم عدم الارتباطية الثنائية بينهما -تنظيمية أو فكرية- فإن الذئب المنفرد لا يقوم بالنفي، بل ربما تنتابه حالة سيكولوجية تُشعِره بسعادة بالغة كونه تمكن أخيرًا من أن يكون جزءًا من عمل دولي، فبالتأكيد عقوبة القتل المتعمد التي ارتكبها لن تختلف كثيرًا بسبب توجهه الفكري، ولكنها قد تدفع الدولة لتكون أكثر حرصًا في المرات المقبلة على انتهاج وسائل أكثر فعالية للحدِّ من التطرف المجتمعي.
وتنقسم العمليات التي تقوم بها الذئاب المنفردة إلى نوعين، وهما:
- النوع الفوضوي: الذي يستهدف تجمعات بشرية أو أحداث اجتماعية بقنابل أو بأحزمة ناسفة أو بطلقات نارية، وهذا النوع من العمليات يتم بتخطيط من الفرد المُنفذ دون ترتيب مع المنظمات الإرهابية التي ينتمي إليها، ومثال ذلك عملية إطلاق النار على الملهى الليلي في إسطنبول في احتفالات رأس العام 2017، والتي أدت إلى مقتل 39 شخصًا، ومن الجلي أن معظم عمليات الذئب المنفرد تنتمي لهذا النوع.
- النوع التوظيفي: ويُقصد بهذا النوع اتخاذ البعض من القتل المُمنهج وسيلة لإيذاء المجتمع، دون أن تربطهم أي صلات مُؤسسية بالتنظيمات المتطرفة، وفي هذا النوع، يقوم الذئب المنفرد بالتخطيط لعملياته من خلال رسائل بريدية أو إلكترونية، وعلى عكس النوع السابق، نجد أن الأفراد الذين يتخذون من هذا النوع وسيلة للتعبير عن غضبهم يقومون برسم خُطط مُتقنة واستخدام الأدوات التكنولوجية لتحقيق أهدافهم الدموية.
وقد استخدم هذا المصطلح للمرة الأولى بواسطة المباحث الفيدرالية الأمريكية، وقد أطلقته على تيد كازنسكي.
لماذا تلجأ التنظيمات المتطرفة إلى الذئاب المنفردة؟
دومًا ما انتهجت التنظيمات المتطرفة وسائل تقليدية للقيام بعملياتها في أوروبا، والتي تضمنت القيام بهجوم مسلح منظم أو إطلاق نار على تجمعات سكنية أو شرطية، ورغم أن كل هذه الوسائل أثبتت فاعليتها في البداية؛ فإن الجهد الاستخباري الذي بُذل لاحقًا، تمكن بشكل كبير من التقليل من حدتها، ومن آثارها المُفجعة، ويرجع ذلك إلى طبيعة الوسائل التقليدية نفسها، والتي تتضمن تهريب أسلحة من دولة إلى أخرى، أو إرسال تحويلات نقدية من خلال أشخاص أو مؤسسات مجتمع مدني إلى الفئة التي تخطط لتنفيذ عمليات إرهابية.
وفي بعض الأحيان، قد تقوم التنظيمات المتطرفة بعملية توظيف داخل الدولة المُستهدفة، لأشخاص محليين أو أجانب لديهم القدرة على صناعة المتفجرات أو الحصول عليها من خلال مهربين دوليين، كما تتضمن الوسائل التقليدية تخطيطًا محكمًا لإلحاق أكبر الأضرار بالخصم، والذي يعتمد دومًا على ثغرة أمنية قد تُكشف بعد إتمام العملية، ما تحول دون تنفيذ عمليات أخرى على المنوال نفسه، ولذا فإن التنظيم المتطرف يُحكم تنفيذ فعله من أجل إلحاق ضرر قد لا يتمكن من إحداثه لاحقًا، ولا يخلو هذا التخطيط من محاولة خلق ممر آمن لمُنفذيه.
ولأجل كل الأسباب السابقة قامت التنظيمات المتطرفة باستحداث وسائل جديدة مثل «الذئب المنفرد» لتحقيق غاياتها الدموية، مُعتمدة بذلك على عجز الدولة الوظيفي للقيام بعمليات تجسس أو مراقبة على كل المواطنين، ما يمثل انتهاكًا للحقوق المدنية، وقد استغلت التنظيمات الإرهابية فكرة العمل السري الخاص؛ لأنها تُجنب الذئب المنفرد الكثير من الشبهات، ما يعود لاحقًا بالإيجاب على أدائه، فبفضل خاصية السرية التي تميز هذه الوسيلة يتمكن المُنَفِّذ من العمل بهدوء مطلق، وتحديد أهدافه بعناية مُتناهية قبل أن ينطلق لمهاجمة هدفه المنشود، مُلحقًا به أشد الأضرار.
في بعض الحالات، والتي تعتبر أشدها ضيقًا من حيث الموارد التي يتم توظيفها لأغراض إرهابية، يقوم الذئب المنفرد بالحصول على سيارة بطريقته الخاصة، وربما يقوم باستئجارها، وقد يلجأ الذئب المنفرد إلى سرقة سيارة، في وقت التأزم المالي، قبل أن يقوم باستخدامها في تنفيذ عمليته إذا ما رأى أن الظروف مواتية لذلك.
وبالصدفة البحتة، قد يُقرر تنفيذ عمليته بينما يتجول في السوق دون أي تخطيط مُسبق، أو أي أوامر تنظيمية، مما يُصعب من مهمة الأجهزة الأمنية لتعقب هؤلاء الأشخاص، وتحديد وقت قيامهم بالعمل الإرهابي، وقد حدث هذا في السويد، حينما قام رجل بسرقة سيارة ونفذ بها عملية دهس في ستوكهولم، وقد أدى هذا إلى مقتل ثلاثة وعدد من الجرحى ، ورغم أن رد فعل الشرطة السويدية كان سريعًا للغاية فإن هذا لم يمنع الذئب من تنفيذ هدفه.
ويلعب الإنترنت دورًا بارزًا في مساعدة التنظيمات المتطرفة على القيام بهذه الوظيفة، فبفضل الشبكة العنكبوتية يتمكن جميع الأفراد في أوروبا من متابعة إصدارات التنظيمات المتطرفة، ومتابعة توجيهاتهم، وقد يندفع أحدهم للقيام بعمل إرهابي وفق طلب التنظيم ذلك، ولا يُعد ذلك عملاً تنظيميًّا كونه يفتقد للعلاقات التواصلية بين الطرفين، فلا التنظيم يعرف الشخص الذي ينوي القيام بعمل إرهابي، كما أن الفرد لم يتلق أي تعليمات مباشرة من التنظيم؛ حيث إن تعليمات التنظيم تشبه الرسالة العامة المجردة التي تنطلق في فضاء الإنترنت، وتظل عائمة حتى يلتقطها أحد العناصر ويقوم بتنفيذها.
وبالتالي فإن هذا لا يجعلها عملية منظمة، حيث إن جهة الإصدار، المرئي والمسموع، لم تُحدد هوية المكان الذي يجب استهدافه، والأهم أنها لا تُقدم للذئب المنفرد أي مساعدة لوجستية، وقد يلجأ بعض الأفراد إلى الإنترنت للحصول على مادة علمية تقنية للاستفادة منها في صناعة المتفجرات لاحقًا، فعلى سبيل المثال، قد أثبتت المعلومات الاستخبارية أن بعض الإرهابيين الذين خططوا لمهاجمة مراكز حيوية في المملكة المتحدة قاموا بتحميل مقالة علمية بعنوان «كيف تصنع قنبلة في مطبخ والدتك»، ويعد استخدام الجندي الأمريكي ناصر جاسون عبده لهذه المقالة لصناعة متفجرات لمهاجمة قاعدة فورت هود العسكرية خير مثال على ذلك؛ حيث تم اعتقاله وبحوزته مواد لصناعة متفجرات.
الجدير بالذكر أن الهزائم المتكررة التي حظيت بها التنظيمات المتطرفة في مواطن نفوذها، قد أسهمت في زيادة اعتمادها على تكتيك الذئب المنفرد، ففي أفغانستان نجد أن نجم القاعدة قد أفل كثيرًا بالمقارنة بمرحلة ما قبل الغزو الأمريكي لأفغانستان، وكذلك هُزم «داعش» بضراوة في سوريا والعراق، ما دفع كليهما للبحث عن وسيلة فعّالة تُمكن كل منهما من إثبات قوته، وإبراز صورته كرجل قوي لم يُهزم بعد، ظنًّا منه أن هذا قد يُبقي على نجاح محاولاته الاستقطابية الفاعلة.
ومن أبرز عمليات الذئب المنفرد في أوروبا:
- هجوم شارلي إيبدو: تبنته القاعدة في 2015، وأدى إلى مقتل 12 شخصًا، وأحدث هذا الهجوم رد فعل مدويًا كونه قد هاجم صحيفة ورقية، ما عُد انتهاكًا واضحًا ضد حرية التعبير عن الرأي.
- هجمات بروكسل: قام عدد من العناصر الموالية لـ«داعش» بتنفيذ عدد من الهجمات استهدفت مطار بروكسل ومحطات قطار في مارس 2016، وأدى هذا التفجير إلى مقتل 34.
- هجوم إسطنبول: استهدف شخص في ليلة رأس سنة 2017 بالسلاح الناري والقنابل المتفجرة ملهى ليليًّا في إسطنبول؛ ما أدى إلى مقتل 39، ثم تمكن من الفرار لاحقًا.
- هجوم مانشستر: وقع في 2017 حينما فَجَّر بريطاني -من أصل ليبي- نفسه في حفل غنائي؛ ما أدى إلى مقتل 22.
استراتيجيات المواجهة الأوروبية
تواجه الدول الأوروبية صعوبة بالغة في تحديد هوية الذئاب المنفردة؛ بسبب اعتمادهم المُفرط على أنفسهم وحرصهم الشديد على تجنب التواصل مع الأشخاص المحيطين بهم؛ حرصًا على سلامتهم الخاصة، عكس المجموعات الإرهابية التي تتكون من أكثر من شخص، ويقومون بالتواصل فيما بينهم ما تزداد معه احتمالية ارتكاب أي من أفراد الجماعة لأخطاء تُوقع بهم لاحقًا.
وبسبب الهوية الغامضة للذئب المنفرد، نجد أن أوروبا تعتمد بشكل رئيسي على الأخطاء التي من الممكن أن يرتكبها أثناء تنفيذ عمليته، والتي قد تؤدي إلى كشف نواياه التخريبية؛ حيث إنه من المعلوم أن أي عملية إرهابية تتضمن تكوين معلومات عن المكان المستهدف قبل الشروع بأي خطوة، إضافة إلى هذا قد يقوم الذئب المنفرد بعملية رصد ومراقبة للمكان على مدار أكثر من يوم؛ لتحديد الوقت المناسب الذي يُمكنه من إحداث ضرر جسيم . ما يلفت نظر أجهزة الأمن الأوروبية له.
ورغم أن احتمالية كشف الذئب المنفرد في هذه الحالة ضئيلة؛ بسبب توقفها على أخطاء محتملة قد لا تتحقق، فإن الأجهزة الأوروبية تعمل على تكثيف عملها الاستخباري حول المناطق الحيوية؛ كونها المناطق الأكثر عرضة للاستهداف، فالذئب المنفرد دومًا ما يسعى بعمليته إلى إحداث شرخ مجتمعي، والتأثير على أحد المدخلات الاقتصادية بما يعوق العمل التنموي داخل البلد المُستهدف.
ولا يخفى على أحد الصعوبة البالغة التي تواجهها الدول الأوروبية؛ لمعرفة الميول والتوجهات المنحرفة لدى مواطنيها، فمن ناحية نجد أن أوروبا لديها رغبة حثيثة في التدقيق في الأحوال والسلوكيات الاجتماعية لكل مواطن، لكنّ الضرورة القانونية لاحترام الخصوصية الاجتماعية تقف حائلًا أمام هذا العمل؛ ما يمنح الذئب المنفرد فرصة للتخفي بين تشعبات المجتمع المتناقضة، ومن أجل التغلب على هذه النقطة تقوم دول أوروبا بمراقبة حسابات الأشخاص المشبوهين، ومحاولة معرفة اتصالاتهم الخاصة؛ للحدِّ من خطورتهم المُحتملة مُستقبلًا.
كما تضغط الدول الأوروبية على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل «فيسبوك» و«تويتر»؛ لمنحه معلومات شخصية عن بعض الأشخاص محل المراقبة، والتي يُمكن كشفها من خلال رسائله الشخصية؛ ولأن الإنترنت عنصر مهم في نشاط كل ذئب منفرد، نجد أن مواقع التواصل بدأت في فرض قيودٍ على الإعلانات التي تُنشر عليها؛ استجابة لمطالب الحكومات الأوروبية، إضافةً إلى غلق الحسابات التي تقوم بنشر عدوى التطرف، فظاهرة الذئب المنفرد تشبه الفيروس الاجتماعي الذي يتدفق منتشرًا في عمق المجتمعات، محاولًا دفع جُل الغضب المكبوت للخارج في صورة عنيفة، مستبعدًا كل مراجعة نقدية ذاتية.
إضافة إلى هذا، نجد أن بعض دول أوروبا قامت ببناء شبكة برامجية سرية للتجسس على مواطنيها؛ من أجل تحديد هوية الأشخاص الذين يُمكن أن يُصيبهم فيروس الذئب المنفرد، أو التعرف على أولئك الذين يخفون أفكارًا عنيفة خلف ممارساتهم المدنية القويمة، ورغم أن مثل هذه الإجراءات لم يُعلن عنها بشكلٍ رسميٍّ؛ كونها تُخالف القوانين الأوروبية التي تُحتم احترام الخصوصية الفردية، فإن بعض الدول قد انتهجتها كوسيلة حتمية للقضاء على الذئب المنفرد.
ويمكننا أن نستدل على هذه الخطوات غير المُعلنة، من خلال مبيعات أجهزة التجسس، التي تقوم بها الدول الأوروبية للدول التي تواجه تهديدات أمنية؛ لتُمكنها من التجسس على مواطنيها، إضافة إلى كل هذا نجد أن هناك بعض الدول الأوروبية تمارس نشاطًا تجسسيًّا على أخرى مجاورة لها؛ من أجل الحماية القومية.
المدخل التبريري لمثل هذه الأفعال، هو أن الدولة التي تنتهج سلوكا تجسسيًّا على أخرى لا تريد لنفسها أن تكون مثل الرجل الأعمى الذي ينتظر الإعانة من صديقه، بل تريد أن تكون لديها معلومات استباقية عن كل التفاعلات التي تتم بين مواطنيها مع من يقطنون خارج أراضيها.
ورغم أن الدول الأوروبية تمد بعضها البعض بالمعلومات الضرورية الخاصة بهذه الحالات، فإن كل دولة تثق بقدرة أجهزتها الأمنية على تحليل البيانات المعلوماتية بما يحقق أهدافها الأمنية، ففي عام 2017 فُتح تحقيق برلماني سري خاص بأنشطة تجسس ألمانية على مؤسسات ووكالات دولية ، كما قامت ألمانيا بأنشطة تجسسية على فرنسا، وقد كُشف الأمر بعدما سرب سنودن معلومات استخبارية تتعلق بتجسس وكالة الأمن القومي الأمريكي على حلفائها في العالم، وقد كان ذلك في 2013.
ومن أجل تدعيم الحماية من ظاهرة الذئب المنفرد، تقوم الدول الأوروبية بتوقيع اتفاقيات بينية مشتركة، إضافة إلى أخرى خارجية لمكافحة الإرهاب، والتي يتم من خلالها تبادل معلوماتي مُكثف؛ لتمكين الجميع من تدارك الأخطار المحيطة بهم، ومثال ذلك الاتفاقية الأمنية التي وقعت بين مصر وألمانيا لمكافحة الإرهاب في 2016، وكذلك وُقع برتوكول تعاوني بين دول أوروبا لمكافحة الإرهاب في عام 2016 كتحديث للاتفاقيات الأمنية الأوروبية المشتركة التي وُقعت مع نشأة الاتحاد في التسعينيات من القرن الماضي، وقد عمد هذا البروتوكول بشكل رئيسي للحد من خطوة العائدين من الحروب الأهلية في الشرق الأوسط .
هذا إضافة إلى قيام الدول الأوروبية بعمليات تتبع مُحكمة للأموال التي يتم تحويلها من الخارج إلى الداخل، نجد أنها تقوم أيضًا بتتبع شبكات تهريب السلاح، التي تعد أداة فاعلة في تنفيذ الهجمات ضدها، رغم أنها لا تحمل أي فكر عقائدي، ولكنّ الارتباط المنفعي بينها من ناحية، والمُتطرفين من ناحية أخرى، يُلزمها ببيع السلاح مقابل مبالغ مالية كبيرة.
آلية التنظيمات المُتطرفة للإبقاء على فاعلية الذئب المنفرد
تسعى التنظيمات المتطرفة للإبقاء على فاعلية طريقة «الذئب المنفرد»؛ لقدرتها على التعمق خلف القدرة الاستخبارية الغربية، ولذلك فقد انتهجت التنظيمات عددًا من الوسائل للتغلب على الإجراءات الأمنية الأوروبية الهادفة لردعها، وهي:
- إنشاء كتائب إلكترونية: وتتولى هذه الكتائب عمليات مُمنهجة لاستقطاب عناصر «الذئب المنفرد»، ومدّهم بالمادة المتطرفة اللازمة لتجييشهم معنويًّا قبل التحرك للقيام بعملياتهم الإرهابية، فمن المعلوم أن العنصر المعنوي أحد أهم العناصر التي تتمركز حولها التنظيمات المتطرفة، وتُعد عاملًا رئيسيًّا في قدرتها على دفع أفرادها نحو التضحية بأنفسهم في عملياتٍ إرهابية لا يُمكن النجاة منها، فعلى سبيل المثال كلما قام «تويتر» بغلق حسابٍ ما، أنشأ أفراد هذه الكتائب عشرات الحسابات الأخرى لنشر المادة المتطرفة.
- إرسال أفراد لمهمات خاصة: رغم الجهد الاستخباري المُبذول من دول أوروبا؛ لتجميع بيانات كمية وتفصيلية حول أفراد التنظيمات المُتطرفة، فإن هوية الكثير من أفراد التنظيم لا تزال غامضة، وتتطلب جهدًا كبيرًا لكشفها، فعلى سبيل المثال «الجهادي جون» الذي نفذ عمليات قطع الرؤوس في إصدارات «داعش» المرئية، قد كُشفت هويته بعد وقتٍ طويلٍ من ظهوره، وقد كان ذلك في 2015، ويستخدم تنظيم الدولة هوية أفراده الغامضة لإرسالهم إلى دول أوروبا بهويات مزيفة؛ من أجل القيام بعمليات الذئب المنفرد، مثلما حدث مع الملهى الليلي في تركيا في 2017.
- اللاجئون والمهاجرون غير الشرعيين: يُعد استخدام اللاجئين وسيلة فاعلة للغاية من قبل التنظيمات المتطرفة لإرسال عناصره إلى أوروبا من أجل تنفيذ عملياته، ويتم ذلك من خلال تسلل عناصر التنظيم إلى قوارب الهجرة غير الشرعية، التي تُقله -لاحقًا- إلى شواطئ أوروبا، مُستغلًّا بذلك الجانب الإنساني الذي تُظهره أوروبا في تعاملها مع قضية اللاجئين، كما تستخدم التنظيمات المتطرفة اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين في نقل المعلومات، مُستغلين عدم اشتباه الشرطة بهم، وبلاشك، فإن مثل هذه الأداة يسبب ضررًا جسيمًا لمشكلة اللاجئين؛ حيث إنها تُجبر دول أوروبا على اتخاذ إجراءات أكثر تشددًا تجاههم.
- التكنولوجيا: تُولي التنظيمات المتطرفة اهتمامًا كبيرًا للتكنولوجيا الحديثة؛ كونها أداة فاعلة في إحداث نوع من التواصل السري بين أفرادها بصفةٍ عامة، ولذا من الممكن أن تُساعد التنظيمات المتطرفة على تحويل أنشطة الذئب المنفرد من النوع الفوضوي العام إلى النوع المهني المتخصص، الذي من خلاله قد تتمكن التنظيمات المُتطرفة من إحداث هجمات إلكترونية مُنظمة، بواسطة أفرادٍ خارج أوروبا؛ لتُسبب شللًا عامًّا في القطاعات الحكومية، قبل أن يُلحق بعملياتٍ تفجيرية في أماكن مُتفرقة؛ بهدف تحقيق أقصى الأضرار، وإفقاد أجهزة الأمن القدرة على الرد السريع.
خاتمة
من المؤكد أن المعركة الثنائية بين الدول الأوروبية والتنظيمات المُتطرفة سوف تستمر لأبعد من ذلك، فالهدوء النسبي لا يعني أبدًا نجاح أجهزة الأمن الأوروبية على الحدِّ من تهديداتها الخارجية، ولكنها قد تكون مرحلة «إعادة ترتيب العناصر وتوزيع الأدوار» داخل التنظيمات المتطرفة؛ وفيها يتم إحلال عناصر جديدة بدلًا من أخرى قديمة؛ لإحداث أضرارٍ جسيمة بالمجتمعات الأوروبية، على أمل إحداث شروخٍ مجتمعية قد تُؤذي الهيكل المجتمعي العام لاحقًا.
ولذا يجب على أجهزة الأمن الأوروبية أن تعي تمامًا أن التنظيمات الإرهابية التي لا تمل أبدًا من تصيُّد الثغرات الأمنية للانقضاض، وتحقيق أكبر الأضرار الدموية، ولأن المواجهة ليست أمنية فقط، فإنه يجب على دول أوروبا أن تُولي عناية فائقة لرصد ومتابعة سلوكيات الانحراف المُجتمعي، التي قد تتحول لاحقًا إلى جنوحٍ عامٍ، ويكون ذلك بعمل برامج وقائية لتربية النشء على احترام الحقوق المدنية، وأخرى علاجية لإعادة تأهيل الجانحين وتحويلهم إلى نماذج للعيش معًا وقبول الآخر.
فالتنظيمات الإرهابية لا تهتم بهوية الذئب المنفرد بقدر ما تهتم بنتيجة أفعاله العنيفة؛ لذا فإن إصلاح الجانحين قد يكون مُحفزًا لدفع آخرين على طلب المُساعدة، ومُثبطًا للإرادة الاستقطابية للتنظيمات العنيفة، فضلًا عن جهود الدول الأوروبية لتحديث أنظمتها الدفاعية الإلكترونية؛ لتجنب أي اختراقٍ على الشبكة الإلكترونية من قبل التنظيمات المُتطرفة قد يكون أشد ضررًا من العمليات المُسلحة، بحرمان الآلاف من خدمات النقل والكهرباء والصحة وغيرها؛ ما يعود بالسلب على معدلات الأمن والاستقرار المجتمعي.
ولا يجب أن نغفل عن دور الشعب في مساعدة السلطات الحكومية على كشف الميول الانحرافية والمساعدة في إعادة تأهيلها، كأداة فاعلة لمواجهة الجهود الاستقطابية للتنظيمات العنيفة.
غير أننا لا نملك في النهاية إلا أن نشير إلى المعادلة الصعبة في التعامل الحقوقي والأمني مع الإرهاب بشكل عام، ومع الذئاب المنفردة على وجه الخصوص، ذلك أن كل تجاوز في مراقبة الأفراد وعقاب الذئاب المنفردة المفترضة؛ وفقًا لتوقعات ونوايا لم تتحول بعد إلى أفعال قد يساعد لاحقًا في مهاجمة الدولة وزيادة الاستياء الشعبي، وهو ما تسعى إليه أيضًا هذه التنظيمات الإرهابية التي لا تهتم بهوية الذئب المنفرد بقدر ما تهتم بأفعاله، وبالأحرى بنتائج تلك الأفعال.