صراع النفوذ يشتعل في القطب الشمالي بعد انضمام فنلندا للناتو

يبدو أن العالم قد ودع أيام السلام إلى غير رجعة، فبعد مرور نحو 13 عشرًا شهرًا على بدء الحرب الروسية ــ الأوكرانية، وما تبعها من أزمات اقتصادية خانقة ضربت العالم بأسره، قرر حلف شمال الأطلسي "ناتو" قبول عضوية فنلندا، متحديًا تهديدات موسكو حيال هذا الأمر الذي يهدد أمنها القومي، نظرًا لتوسع الحلف إذ تصبح المساحة 1300 كيلومتر حدود مباشرة بين روسيا والناتو، فضلًا عن وضع الحلف موضع قدم في القطب الشمالي، ما ينذر باتساع دائرة الصراع.
ومن جانبها حذرت روسيا من تفاقم الأزمة بالمنطقة، وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن احتضان الناتو لفنلندا تعدٍّ على أمن ومصالح روسيا الوطنية، وأن موسكو تراقب عن كثب كيف يستغل حلف الناتو أراضي فنلندا، من حيث وضع الأسلحة والأنظمة والبنى التحتية هناك.
أما سيرجي شويغو وزير الدفاع الروسي فقد أكد أن انضمام فنلندا إلى حلف الناتو وتحرك الأخير لرفع جاهزيته القتالية يزيد خطر تفاقم الأزمة في المنطقة، مشيرًا إلى نقل روسيا بالفعل طائرات عسكرية إلى بيلاروسيا، قادرة على حمل رؤوس حربية نووية.
وعلى مستوى الدبلوماسية الروسية حذر سيرجي لافروف وزير الخارجية من أن بلاده ستتخذ تدابير عسكرية تقنية وإجراءات انتقامية لمواجهة التهديدات التي يتعرض لها أمنها القومي نتيجة انضمام فنلندا إلى الناتو.
إثارة موسكو
بحسب الخبراء فإن انضمام فنلندا إلى حلف الناتو من شأنه إثارة موسكو، إذ إن الأولى تقع في دائرة نفوذ روسيا الاقتصادي والأمني، ما يُمَثّل تحديًّا للنفوذ الروسي في المنطقة، إذ بات الغرب قادرًا على تهديد العمق الروسي بفضل المدفعية الفنلندية التي تُعَدّ الأقوى في العالم، فضلًا عن قطع الطريق على روسيا في منطقة نفوذها بالقطب الشمالي، حيث تصبح روسيا العضو الوحيد من خارج الناتو من بين الدول التي تطالب بأراضي القطب الشمالي، ما يُنذر باندلاع مواجهة عسكرية مع حلف الناتو مباشرة تذكر العالم بمآسي الحربين العالمية الأولى والثانية.
شحن سياسي
يقول الدكتور باسل الحاج جاسم، الباحث في الشؤون الروسية الأوروبية، إن هناك 11405 رؤوس نووي في حوزة كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا مشحونة سياسيًّا بشكل كبير جراء خطوة انضمام فنلندا فعليًّا تحت مظلة الناتو، بينما واشنطن ترفض التوقف عن اتخاذ خطوات توسعية لحدود الحلف ومظلته الدفاعية والهجومية ودعم الترسانة الصاروخية لدوله برؤوس التهديد.
وأضاف "جاسم" في تصريح لـ"المرجع" أن خطوة انضمام فنلندا قد تكون طريقًا لإشعال فتيل حرب عالمية ثالثة أو مواجهة عالمية محدودة، كون خطوة فنلندا جاءت في توقيت يتسم بالتحفز الروسي الشديد تجاه الأمن القومي لموسكو مع توسع الوجود الغربي لدول حلف الناتو قرب الحدود الروسية، مشيرًا إلى أن انضمام فنلندا إلى حلف الناتو لم يضاعف حدود الحلف المشتركة مع روسيا بنحو الضعف وحسب، بل شكل نكسة استراتيجية وسياسية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لطالما شكا من سياسة الحلف التوسعية شرقًا، إذ أصبح الناتو قريبًا من شبه جزيرة كولا الروسية، وهي أرض استراتيجية تقع على بعد 110 أميال شرق الحدود، حيث تحتفظ روسيا بصواريخ باليستية وتخزن الرؤوس الحربية النووية، بالإضافة إلى السيطرة على بحر البلطيق القريب من عاصمة روسيا القديمة مدينة سانت بطرسبرغ، وأصبح بحيرة خالصة لحلف الناتو.
وأكد الباحث أن روسيا تحاول إيجاد حل لتحجيم خريطة التهديد الجديدة المتمثل في حصار حدودها بعواصم تدين بالتبعية والحماية لحلف الناتو، وبالتالي كان تحركها الأبرز مؤخرًا في بيلاروسيا، والسعي لنشر منظومات صورايخ نووية وتكتيكية أبرزها منظومات إسكندر.
وأكد "الحاج" أن تدريب القوات الروسية لنظيرتها البيلاروسية منذ 3 أبريل 2023، على تلك الأسلحة النووية والصواريخ التكتيكية، ينبع من قناعة روسية تامة أن خطوة انضمام فنلندا للناتو لن تكون الأخيرة كما باتت السويد في الطريق، بعدما أزالت واشنطن الكثير من المعوقات في طريق ضمها للحلف، وأصبحت روسيا تحتاج إلى تعزيز دفاعاتها العسكرية في شمالها الغربي وفي الجزء الغربي من ساحلها القطبي، كما تحتاج إلى تقوية أنظمة الدفاع الجوي في شمال غرب البلاد لمواجهة أي هجمات جوية أو صاروخية محتملة تنطلق من فنلندا.
كان الرئيس الروسي فلاديميير بوتين قد أعلن اهتمام بلاده بالقطب الشمالي فيما قرر تخصيص نسبة كبيرة تبلغ 10% من الاستثمارات الحكومية الروسية في المنطقة، وذلك يرجع إلى أن خمس الأراضي الروسية ونحو 90% من احتياطاتها الهيدروكربونية المستقبلية تقع داخل الدائرة القطبية، ووجود مليوني روسي يعيشون داخل الدائرة المتجمدة، وهو أكثر من نصف عدد سكان العالم في هذه المنطقة.
ومع كون ما يقرب من 22% من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا يتم الحصول عليه من حقول النفط والغاز في المنطقة الواقعة فوق الدائرة القطبية الشمالية، فإن منطقة الشمال الباردة تعد جزءًا لا يتجزأ من نسيج ثقافة الروس ورمزًا لطموحاتهم التاريخية للوصول إلى أقصى نقطة ممكنة شمال العالم، ولا سيما أن الجليد بدأ يذوب بدرجة كثيفة في القطب الشمالي، ما يجعل الاحتياطيات الهائلة من النفط والغاز الكامنة هناك تحت قاع المحيط قابلة للاستخدام، والتي تبلغ نحو 26% من احتياطي الموارد غير المكتشفة على وجه الأرض، وذلك كله يفتح الأبواب على مصاريعها أمام تطور الأحداث في الفترة القريبة المقبلة، وبما يضع العالم بأسره أمام حقبة جديدة وبات على مشارف حرب عالمية.