الجيل الرابع من التنظيمات الإرهابية.. مسارات الفكر واستراتيجيات الحركة

شهدت خمسينيات وستينيات القرن العشرين، استقلال دول عربية عديدة وتخلصها من الهيمنة الاستعمارية، التي فُرضت عليها أزمانًا؛ حيث عمل الاستعمار على خلق مناخ ملائم للجماعات والتنظيمات الراديكالية في المجتمعات العربية والإسلامية، فمثلًا جماعة الإخوان نشأت خلال فترة وجود الاحتلال البريطاني لمصر، كما أن تنظيم (الرابطة الإسلامية الإندونيسية)([1]) نشأ أيضًا في كنف الاستعمار الهولندي لإندونيسيا.

فمعظم الدول العربية والإسلامية واجهت إشكاليات داخلية متعددة كفيلة بإعاقتها والتأثير على تماسكها السياسي والاجتماعي، ومن أهمها تنامي مؤشرات الفساد السياسي والاجتماعي، ورداءة الأداء الاقتصادي لأغلب تلك الدول، فضلًا عن ذلك ظهور تيارات دينية تكفيرية ترفض التعايش في إطار الهوية القوية الوطنية، والقومية لتلك الدول.
حركات وتنظيمات إرهابية كثيرة شهدت العديد من التحولات البنيوية والفكرية منذ نشأتها وحتى اليوم؛ حيث أفرزت تلك التحولات أجيالًا عديدة من الجماعات والتنظيمات الإرهابية، اتسم كل جيل من تلك الأجيال بسمات وأهداف خاصة.
يمكن التمييز بين ثلاثة أجيال من التنظيمات الإرهابية؛ حيث شهد كل جيل تطورًا في الفكر والحركة عن الجيل السابق له فمثلًا الجيل الثاني كان امتدادًا للجيل الأول، وكذلك الجيل الثالث كان امتدادًا لسابقيه، ويواجه الجيل الثالث من التنظيمات الإرهابية والمتمثل في تنظيم القاعدة العديد من الأزمات المتمثلة في الضربات الأمنية المتتالية التي يواجها التنظيم والتي أفقدت قدرته على السيطرة على المغانم التي ربحها في منتصف عام 2014 والمتمثلة في إنشاء دولته المزعومة «الخلافة الإسلامية».
إذن نحن أمام مرحلة أفول للجيل الثالث، لذا تدور العديد من التساؤلات في مخيلة الكثيرين حول ماذا بعد «داعش» والجيل الثالث، لذا ستحاول الدراسة استشراف شكل الجيل الجديد من التنظيمات الإرهابية، سواء من خلال الفكر أو الحركة، عبر تناول المحاور التالية:
المحور الأول: سياقات نشأة الجيل الأول
ظهر الجيل الأول من الجماعات والتنظيمات الإرهابية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين؛ حيث دخلت تلك الجماعات في مواجهات مع الأنظمة السياسية بغرض إسقاطها وتشكيل أنظمة جديدة قائمة على تطبيق الشريعة الإسلامية، حسب زعم تلك الجماعات والتنظيمات.
محلية التنظيمات الإرهابية
عانت مصر كغيرها من الدول العربية والإسلامية من خطر الجماعات الراديكالية والمتطرفة، ففي الخمسينيات والستينيات خاضت تلك الجماعات (على رأسها جماعة الإخوان) مواجهات عدة مع النظام السياسي المصري بقيادة الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر»، وهدفت الجماعة إلى إرباك النظام المصري وإضعافه تمهيدًا لإنشاء نظام جديد يحقق طموحات جماعة الإخوان([2]).
أثناء تلك المواجهات بدأت تتشكل في الداخل المصري جماعات أكثر عنفًا وفتكًا مثل تنظيمي «الجماعة الإسلامية» و«الجهاد الإسلامي» اللذين تشكلا في نهاية الستينيات، ويعتبر التنظيمان مسؤولين عن معظم الأحداث الإرهابية التي دارت في مصر منذ السبعينيات وحتى التسعينيات، مشكلة بذلك جيلًا جديدًا من الجماعات الإرهابية([3]).
تطور الحالة الإرهابية لا يقتصر على الواقع المصري فقط بل يمتد ويشمل باقي الدول العربية والإسلامية، فتقريبًا في الفترة التي نشأت فيها الجماعة الإسلامية في مصر نشأ أيضًا تنظيم «الطليعة المقاتلة لجماعة الإخوان» في سوريا([4]) ونشأ أيضا تيار السلفية في المحتسبة في المملكة العربية السعودية([5]).
وعلى كل ما سبق يتضح أن معظم الجماعات الإرهابية اتسم طابعها بالمحلية أي أنها كانت تعمل في إطار حدود جغرافية الدولة التي تنتسب إليها، بمعنى أن الجماعة الإسلامية في مصر على سبيل المثال كان خطابها موجهًا في البداية إلى مسلمي مصر ونطاق عملياتها الإرهابية لا يتجاوز الحدود المصرية، كذلك الطليعة المقاتلة في سوريا.
سياقات النشأة
تشابهت تقريبًا كافة السياقات التي نشأت فيها الجماعات الإسلامية في تلك المرحلة، فمثلًا السياق السياسي نشأت تلك الجماعات في ظلِّ أزمة الهوية التي انتابت معظم الدول العربية والإسلامية في مرحلة ما بعد الاستعمار؛ حيث في تلك المرحلة تنازعت الجماعات الإرهابية التي ادعت «الهوية الأممية» مع فكرة الهوية القومية([6]).
وكما تشابهت السياقات السياسية تشابهت أيضًا السياسات الاقتصادية فمعظم الدول العربية والإسلامية عانت من هبوط الأداء الاقتصادي ودخولها في مشكلات اجتماعية عنيفة متمثلة في انتشار الفساد، الأمر الذي وفر مناخًا ملائمًا للجماعات الإرهابية في البزوغ، فمثلًا ترعرعت التنظيمات الجهادية الإرهابية في مصر في المناطق الأكثر فقرًا سواء في الصعيد أو في الأحياء الهامشية، كما أدت الأزمات الاقتصادية التي واجهتها الجزائر في عهد الشاذلي بن جديد إلى نشأة التنظيمات المتطرفة في الداخل الجزائري([7]).

المحور الثاني: الجيل الثاني والتحول للعالمية
شكلت الأحداث العالمية التي واجهت النظام الدولي عام 1979 بداية الإرهاصات الحقيقة نحو التحول إلى الجيل الرابع من الجماعات الإرهابية، ففي ذلك العام شهد العالم تنامي تيار الإسلام السياسي بشكل غير مسبق؛ حيث نجحت الثورة الإيرانية التي قادتها المرجعيات الدينية، كما حدث الاحتلال السوفييتي لأفغانستان؛ ما مهد لما نسميه اليوم بالجهاد الأفغاني([8]).
يعد الجهاد الأفغاني دفعة قوية نحو انتقال التنظيمات الإرهابية من إطار المحلية نحو إطار العالمية؛ حيث سمح الجهاد الأفغاني لمقاتلي الجماعات المسلحة من مختلف الدول الإسلامية بالالتقاء والتكتل في إطار تنظيمات موحدة، ما خلق هوية لدى أعضائها، مشابهًا إلى درجة كبيرة الهوية التي تنشدها تلك الجماعات.
لذا مثلت أودية «قندهار» خلال مرحلة الجهاد الأفغاني الحاضنة الأولى للجيل الثاني من التنظيمات الإرهابية، وقد توجت فترة الجهاد الأفغاني بحدثين رئيسيين، أولهما دحر الاحتلال السوفييتي؛ ما أعطى تلك التنظيمات دفعات وطموحات هائلة في إمكانية تحقيق مقاصدها، والأمر الثاني تَمَثَّل في تمكن ونجاح مؤسس «مركز الخدمات» أو (قاعدة التدريب على فنون الحرب والعمليات المسلحة)([9]) في أفغانستان «أسامة بن لادن» برفقة «أيمن الظواهري» القيادي في تنظيم الجهاد الإسلامي المصري حينها، في تأسيس «الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبين» في فبراير 1998، والذي اشتهر في مرحلة لاحقة باسم تنظيم القاعدة([10]) واتسم الجيل الثاني بالمميزات التالية:
v العالمية: دشن تنظيم القاعدة ما يسمى بعالمية الإرهاب أو بالأدق عولمة الإرهاب، فالإرهاب لم يعد مقتصرًا على بعض الدول الإسلامية إنما امتدت نشاطاته إلى معظم دول العالم، فمثلًا تم استهداف السفارة الأمريكية في نيروبي ودار السلام عام 1998، واستهداف برجي مركز التجارة العالمي، فيما يُعرف بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما لم تسلم مدن القاهرة، وشرم الشيخ، والرياض، وبالي بإندونيسيا، ومدريد، ولندن، من تفجيرات تنظيم القاعدة.
v استهداف البُنى التحتية: غيرت القاعدة تكتيكات العمليات الإرهابية، فبعد أن كانت موجهة بصفة خاصة نحو أفراد قوى الأمن والأقليات الدينية توسعت أيضًا لتشمل البُنى التحتية، مثل تفجير برجي التجارة العالمي بنيويورك بواسطة طائرات مدنية، ومحطة القطارات في مدريد 2004، ولندن 2005، كما توسع التنظيم في استخدام تكتيك السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، وجرى استخدامهما بشكل موسع إبان الصراع الطائفي العراقي 2006 - 2009.
v محورية القاعدة: شكَّل تنظيم القاعدة المحور الأساسي الذي تدور في فلكه كل التنظيمات الإرهابية خلال العقدين الماضيين، فتقريبًا معظم الجماعات الإرهابية في الدول كافة بايعت تنظيم القاعدة، ونفَّذت العديد من العمليات الإرهابية باسم القاعدة، فمثلًا تنظيم أنصار بيت المقدس العامل في منطقة سيناء شمال شرق مصر ارتكب العديد من العمليات الإرهابية تحت راية تنظيم القاعدة، أي أن القاعدة شكَّلت الغطاء الفكري والتنظيمي للعديد من الجماعات الإرهابية.

المحور الثالث: الجيل الثالث ونشأة الدولة الإرهابية
يُعَدُّ عام 2011 نقطة تحول خطيرة في مسيرة التنظيمات الإرهابية؛ نتيجة اندلاع أحداث الربيع العربي من ناحية ومن ناحية أخرى مقتل مؤسس تنظيم القاعدة «أسامة بن لادن»، في عملية عسكرية نفذها الجيش الأمريكي في مدينة «أبوت أباد» شمال شرق باكستان في 2 مايو 2011.
تلك الأحداث أسهمت بشكل كبير في انهيار الصورة النمطية التي تميزت بها «القاعدة» عند التنظيمات الإرهابية في الدول الإسلامية؛ ما أدى إلى انشقاقات متتالية عن القاعدة، ولعل أبرزها انشقاق فرع القاعدة في العراق «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» وتكوينه لما يُسمى «داعش»، وشَكَّلَ ظهور تنظيم داعش الجيل الثالث من الجماعات والتنظيمات المتطرفة، ويمكن إبراز سمات هذا الجيل في النقاط التالية:
v الخلافة الإسلامية: عكس تنظيم القاعدة شرع «داعش» في إنشاء دولته المزعومة الخلافة الإسلامية في يونيو 2014 على أنقاض محافظتي الرقة السورية والموصل العراقية، مشكلًا تغييرًا ولو مؤقتًا في خريطة الدولتين السورية والعراقية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.
ويعد تدشين الخلافة الإسلامية من أبرز النقاط الخلافية بين القاعدة وداعش، فالقاعدة يصرُّ أن المسلمين يعيشون في مرحلة شوكة النكاية والإجهاد، في حين يرى تنظيم داعش، أنه يجب الانتقال إلى مرحلة التمكين وإنشاء الخلافة الإسلامية.
v الانهيار السريع: مثلما كان صعود التنظيم سريعًا كان انهياره سريعًا أيضًا، فلم يصمد أمام الضربات الموجهة له سوى ثلاث سنوات تقريبًا، ففي نهاية 2017 تحررت أغلب المناطق التي كان يسيطر عليها سواء في سوريا والعراق أو في ليبيا.
v تكتيكات متنوعة: طَوَّرَ تنظيم داعش من تكتيكات الجماعات الإرهابية؛ حيث توسع في مسألة الذئاب المنفردة، وجرى استخدامها بشكل لافت في الدول الأوروبية أو المناطق التي يصعب وجوده فيها بشكل ميلشيوي.
كما توسع التنظيم بشكل كبير في اتباع تكتيك السيطرة الميدانية؛ حيث لزم إنشاء دولته في يونيو 2014 إلى تدريب عناصره على أسلوب مشابه للحرب النظامية والاحتفاظ بالأرض أطول فترة ممكنة، وهو ما يعد ثورة تكتيكية في التنظيمات الإرهابية التي عادةً ما كانت تتبع أسلوب حرب العصابات من خلال توجيه ضربات مركزة ضد بعض الأهداف ورفض مبدأ الاحتفاظ بالأرض، فالقاعدة احتفظت فقط ببعض الملاذات الآمنة في جبال أفغانستان دون التوسع في كسب مزيد من الأراضي.
v الانخراط في الصراع الطائفي: تنظيم القاعدة كان يتجنب إلى حدٍّ ما الانخراط في الصراع الطائفي بين السنة والشيعة؛ نظرًا للعلاقات الارتباطية بين نظام الملالي والقاعدة، وكانت مسألة انخراط فرع العراق في الصراع الطائفي عام 2006 نقطة الخلاف بين التنظيم الأم في أفغانستان وفرعه في العراق، لكن ممارسات تنظيم داعش رسَّخت بشكل كبير مسألة الصراع الطائفي؛ حيث تم استهداف مساجد الشيعة في السعودية والعراق والكويت، وهو ما أدى إلى تصعيد إرهابي طائفي في المقابل؛ حيث نشأ الحشد الشيعي.

المحور الرابع. مسارات وتنبؤات مستقبلية بملامح الجيل الرابع
منذ تحرير الموصل في يوليو 2017 والرقة في أكتوبر 2017 تدور العديد من التساؤلات حاليًّا حول مستقبل التنظيمات الإرهابية، وهل نحن مقبلون على ما يُسمى جيل رابع من الإرهاب؟ أم أن ما يحدث حاليًّا يمثل ارتدادًا على ما يُسمى الجيل الثالث والعودة مرة أخرى للتموضع في الإطار والسياق الذي تحركت فيه جماعات وتنظيمات الجيل الثاني.
من المؤكد أن بعض المؤشرات تشير إلى العودة مرة أخرى إلى الحالة التي سبقت ظهور داعش؛ حيث محورية القاعدة في التنظيمات الإرهابية، وتبنيها تكتيكات بعينها هدفها إضعاف الدول والأنظمة السياسية مع عدم اللجوء في الوقت الراهن إلى إنشاء الدولة، وعزز هذا السيناريو بروز وتنامي القاعدة مرة أخرى، خاصة في منطقة الساحل والصحراء.
يمكن القول إن الفرضية السابقة قد تبدو مخادعة إلى حدٍّ ما، فالسياق الذي نشأت فيه تنظيمات الجيل الثاني لم تعد هي السياقات الراهنة، فالعديد من الدول الإسلامية حاليًّا في انهيار شبه تام، وتفتقد القدرة على بسط سيطرتها على معظم الأقاليم مثل دول سوريا والعراق وليبيا؛ ما يعزز طموحات الجماعات الإرهابية من إعادة الكرة مرة أخرى، كما أن تنظيم «داعش» لم يسقط بعد لكي يتم إعلان انتهاء الجيل الثالث من التنظيمات الإرهابية؛ ما يضعنا أمام إشكالية أخرى حول مستقبل التنظيمات الإرهابية بين انتظار جيل جديد من الإرهاب، وانتظار ما يمكن أن يقدمه «داعش» مستقبلًا.
ويمكننا اعتبار أنه في حال سقوط داعش أو نجاحه في إعادة بناء قدرته بمثابة إرهاصات مستقبلية ستؤدي إلى تفريخ جيل جديد من الجماعات الإرهابية أو ما يسمى بالجيل الرابع من التنظيمات الإرهابية، والذي سوف يتبع المسارات الآتية سواء في الفكر أو الحركة:
v النقاط الميتة: ستلجأ التنظيمات إلى إعادة الانتشار مرة أخرى في المناطق الميتة أمنيًّا، والتي يصعب الوصول إليها، ومواجهة التنظيمات الإرهابية؛ نظرًا لوعورة تضاريسها الطبيعية أي استنساخ تجربة تورا بورا مرة أخرى، ويتضح ذلك من اختيار تنظيم داعش لمنطقة الجنوب الليبي كمنطقة تمركز جديدة؛ حيث تم إنشاء ما يُسمى بجيش الصحراء في مناطق جنوب ليبيا التي تتميز بوعورة تضاريسها، وصعوبة تدخل قوات أمنية بها، أي أن داعش بدأ يعمل على توظيف الظروف الطبيعية لتكون حاضنة له في الجنوب الليبي.
v الإرهاب الطائفي: سيستمر مسار الإرهاب الطائفي الذي عززه تنظيم داعش، فمن المحتمل أن تشمل هجمات التنظيمات الإرهابية في المستقبل القريب معظم الطوائف والمذاهب الدينية، ولعل حادث استهداف مسجد الروضة في شمال سيناء والتابع لإحدى الطرق الصوفية يعطي مؤشرًا قويًّا على تنامي الإرهاب الطائفي.
v التخلي عن تكتيك السيطرة الميدانية: كما ذُكر في السابق أن تنظيم داعش اعتمد على تكتيك السيطرة الميدانية من أجل بناء دولته المزعومة، إلا أن النجاح في تحرير الموصل والرقة شَكَّل ضربة لهذا التكتيك الذي لا يناسب الجماعات الإرهابية؛ ما يدفعها مرة أخرى إلى التركيز على أسلوبي حرب العصابات وإجراء العمليات الإرهابية المركزة والموجهة إلى أهداف تم اختيارها بعناية، فضلًا عن استمرار التوسع في استخدام السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة.
ولعل استراتيجية الذئاب المنفردة أكبر دليل على أن «داعش» لم يُهْمِل تكتيكات حرب العصابات، ولم يتخل عن العمليات الإرهابية المركزة، وكذلك هجمات فرنسا في نوفمبر 2015، وتفجير الطائرة الروسية في نفس العام.
v دغدغة المشاعر العرقية والقومية: قد تلجأ الجماعات الإرهابية إلى تبني بعض الشعارات العرقية؛ من أجل تمرير أنشطتها والتغطية على أهدافها الحقيقة، وتوجد بعض المؤشرات الدالة على ذلك، مثل قيام تنظيم «جبهة نصرة» بتبني بعض مطالب المعارضة السورية؛ من أجل تمرير دورها واعتبارها شريكًا أساسيًّا في حلِّ الأزمة السورية؛ ومن أجل ذلك تبنت بعض السياسات التي تبدو في ظاهرها الابتعاد عن التنظيمات المتطرفة، لكنها في الحقيقة مراوغة تكتيكية هدفها صرف الأنظار عنها مؤقتًا مثل عملية فك الارتباط مع القاعدة في يوليو 2016، وتحول مسمى التنظيم إلى فتح الشام، وفي يناير 2017 حلت فتح الشام ودمجت مع بعض الفصائل الأخرى لتكون «هيئة تحرير الشام».
كما تشير العديد من التحليلات أن تنظيم داعش لجأ إلى الانزواء تحت أطر عرقية لخلط الأوراق، وإرباك الأجهزة الاستخباراتية للعديد من الدول، فبعد تحرير الموصل نشأ تنظيم الرايات البيضاء الذي يعد امتدادًا لتنظيم داعش، لكن تحت ستار الشعارات العرقية الكردية([11]).
وفي أفريقيا لجأ أيضًا تنظيم القاعدة إلى التخفي تحت بعض الشعارات العرقية؛ من أجل تحقيق أهدافه، وهو ما حدث في شمال مالي 2012 حينما تمت السيطرة على شمال مالي وإعلان قيام دولة الأزواد الإسلامية، وهو ما يعد دغدغة لمشاعر قبائل الطوارق في منطقة الساحل والصحراء.
v منظمات إرهابية نسائية: قد تظهر في القريب منظمات إرهابية إسلاموية يكون العنصر النسائي هو الغالب فيها، فبعد الخسائر البشرية التي تعرض لها «داعش» باتت الفرصة سانحة أمام نساء التنظيم للعب دور نسوي كبير على أرض المعركة.
v أجيال متشربة للعنف: حرص تنظيم داعش على الاهتمام بالأطفال وتجنيدهم؛ من أجل غايات كثيرة، أبرزها تعويض النقص العددي، واستخدامهم في المهام الأمنية الاستخباراتية، وأخيرًا إعداد جيل جديد من الإرهابيين، ولا توجد أي إحصائيات دقيقة حول عدد الأطفال إلا أنه من المؤكد أن هؤلاء الأطفال الذين تربوا في كنف التنظيم تشربوا كل مبادئ الإرهاب والعنف، فهم لم يألفوا الحياة المدنية السليمة؛ لذا من المتوقع خلال السنوات القليلة الماضية أن تظهر عناصر أكثر إجرامًا وخطورة من الموجود الآن.
v الحرب الاقتصادية: قد تتطور تكتيكات التنظيمات الإرهابية إلى استهداف البنى التحتية والتركيز عليها بشكل أكبر؛ من أجل شل حركتها الاقتصادية، ولعل خطوط الغاز والكهرباء هي من أكثر البُنى التحتية عُرضة للعمليات الإرهابية والتخريب، وتعرضت مصر لنموذج مصغر من هذا الإرهاب، حينما كان يتم استهداف خطوط الغاز الطبيعي وأبراج الضغط العالي الناقلة للكهرباء.
v التوزيع المناطقي: يبدو أن تنظيمي القاعدة وداعش أكثر تفاهمًا مما سبق، وقد يلجأ التنظيم إلى تقسيم مراكز النفوذ والتأثر فيما بينهم، فمثلًا قد تستأثر القاعدة بشمال أفريقيا والساحل والصحراء، في حين يتنامى نفوذ داعش في منطقة جنوب شرق آسيا.
ويعد التقسيم المناطقي السابق أكثر منطقية في ظلِّ التطورات التي تمر بها المنطقتين ففي شمال أفريقيا جرى إعادة ترتيب التنظيمات الإرهابية بها واتحادها في إطار ما يُسمى «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» بزعامة إياد أغ غالي، والتوسع في ارتكاب هجمات في بوركينافاسو وساحل العاج.
أما منطقة جنوب شرق آسيا فتشهد نموًا محسوسًا لتنظيم داعش بها، خاصة بعد استهداف ثلاث كنائس في إندونيسيا في 13 مايو 2018، وقد تعد منطقة جنوب شرق آسيا أكثر المناطق مرجحة لإعادة انتشار داعش بها للأسباب التالية، منها وجود روافد إرهابية في تلك المنطقة مثل الجماعة الإسلامية في إندونيسيا، والتشرذم الإثني في تلك المنطقة؛ ما يعزز من فرضيات الصراع بين تلك الجماعات، وهو ما قد يستغله داعش، وأخيرًا تعد تلك المنطقة هي الخاصرة الضعيفة للصين والهند، فقد تلجأ بعض الدول مثل الولايات المتحدة إلى تمرير انتشار الجماعات الإرهابية، خاصة «داعش» في تلك المنطقة لتكون عامل ضغط ضد الصين والهند.
v الحاضنة الدبلوماسية: قد تتوسع العديد من الدول في توفير الضمانات السياسية والدبلوماسية للعديد من الجماعات المتطرفة؛ من أجل استخدامها كأداة من أدوات بث نفوذها في الدول الأخرى، ومن المؤشرات الدالة على ذلك تمتع «أبومحمد الجولاني» زعيم جبهة النصرة بحضور سياسي وإعلامي في قطر، كما وفَّرَ النظام القطري حاضنة دبلوماسية لحركة طالبان بعد أن سمحت بإقامة مكتب للحركة في الدوحة.
v الحروب القذرة: قد تلجأ التنظيمات المتطرفة إلى أسلوب الحروب القذرة عبر توظيف الأسلحة الكيماوية والبيولوجية.
v التجنيد النوعي: خلال الفترة السابقة عملت التنظيمات المتطرفة على التجنيد الكمي أي ضم أكبر عدد من الأشخاص إلى التنظيم والزج بهم في أتون العمليات الإرهابية لكن بعد الضربات التي وجهت لتنظيم داعش قد تلجأ التنظيمات المتطرفة إلى تحقيق التجنيد النوعي بالتركيز على أشخاص يتميزون في مجالات بعينها مثل الاتصالات والعلوم الكيميائية والبيولوجية.
v تجنيد النخب: تعتمد التنظيمات المتطرفة على أسلوب الحشد، وجمع أكبر عدد من الأفراد، ومعاداة الأنظمة الحاكمة، لكن التجارب السابقة أثبتت عدم نجاح ذلك الأسلوب، فدائمًا ما تفشل الجماعات الإرهابية في تحقيق مبتغاها، لذا قد تلجأ مستقبلًا إلى الاعتماد بشكل رئيسي على تجنيد النخب الحاكمة، واتباع استراتيجية التغيير من أعلى.
الخاتمة
يجب على الدول عمومًا عدم الانتظار إلى ظهور جيل جديد من التنظيمات والجماعات الإرهابية، والعمل على أخذ الحيطة والحذر تجنبًا لظهور جيل جديد من تلك الجماعات الإرهابية، فمثلًا يجب تمشيط كل المناطق غير المؤمنة؛ حتى لا تكون مأوى للجماعات الإرهابية، وتبني استراتيجية لتعميرها وتنميتها، فضلًا عن ذلك يتم تعزيز أسس الهوية الوطنية للحيلولة دون تفاقم المشكلات الطائفية في الدول العربية والإسلامية، كما يجب تفعيل برامج مخصصة لإدماج أطفال داعش في الحياة المدنية التي لم يألفوها من قَبل.
أما على المستوى الدولي، فينبغي وجود تعاون دولي بناء في تنبؤ الأخطار الإرهابية، والعمل على تصفيتها مبكرًا، وعدم استغلال تلك الجماعات في تحقيق بعض الأهداف السياسية، كما يجب فرض عقوبات على الدول التي تمنح ملاذات آمنة ودبلوماسية للجماعات الإرهابية.
[1] . يعد تنظيم الرابطة الإسلامية الإندونيسية 1912 من أولى التنظيمات الراديكالية التي نشأت في جنوب شرق آسيا، وتعد الرابطة الإسلامية هي التنظيم الأم الذي خرجت من رحمة «الجماعة الإسلامية الإندونيسية» التي كان لها باع في الجهاد الأفغاني وبايعت تنظيم القاعدة وكانت المسؤولة عن تفجيرات بالي 2002، 2005 ويعد «أبوبكر باعشير» من أبرز مؤسسي الجماعة عام 1993، ويقضى عقوبة السجن حاليًّا لدعم تنظيم القاعدة.
[2] . دخلت جماعة الإخوان في صراع مع النظام السياسي المصري بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر؛ بهدف إرباك النظام وإسقاطه خلال عامي 1954 و1965، فالمرة الأولى خلال عام 1954 حاولت الجماعة اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر، وحاولت الجماعة إعادة ترتيب صفوفها بالمخالفة مع القانون وإحياء التنظيم الخاص؛ ما عرضها للمواجهة والصدام مع النظام السياسي.
[3] . مازالت تختلف الأقاويل حول نشأة التنظيميين، فبعض المصادر ترجح نشأة «الجماعة الإسلامية» في مصر في مطلع السبعينيات، والبعض الآخر يرجع نشأة «الجماعة الإسلامية» عام 1968 حينما قام «ما يسمى تنظيم يحيى هاشم» بقيادة بعض المسيرات من مسجد الحسين ردًّا على هزيمة الجيوش العربية أمام الجيش الإسرائيلي في يونيو 1967، أما تنظيم الجهاد الإسلامي فتشير بعض المصادر إلى نشأته عام 1958 على يد نبيل البرعي، وأنه نشأ بمعزل تنظيمي عن جماعة الإخوان إلا أن معظم أفكاره استقاها من أدبيات الجماعة، وللمزيد حول تلك الإشكالية راجع: فتحي حسن عطوة، الجماعة الإسلامية المصرية: قراءة في النشأة والمراجعات، موقع السكينة، 31 يناير 2011، متاح على الرابط: https://www.assakina.com/center/parties/6401.html
[4] . «الطليعة المقاتلة» تنظيم عسكري سوري أسسه مروان حديد؛ للمواجهة المسلحة مع النظام السياسي في سوريا في فترة الستينيات والسبعينيات، وللمزيد تابع: محمد الدابولي، مروان حديد.. مهندس الإرهاب الإخواني في سوريا، المرجع، 19 يونيو 2018، متاح على الرابط التالي: http://www.almarjie-paris.com/1302
[5] . السلفية المحتسبة هوتيار فكري، أسسه جهيمان العتيبي في السعودية، ويعد الرافد الأساسي للجماعات المتطرفة في المملكة، وتورطت السلفية المحتسبة في أحداث الحرم المكي 1979، حين احتل جهيمان وأتباعه ساحة الحرم المكي، معلنًا ظهور المهدي المنتظر، وضرورة خضوع المسلمين له.
[6] . ترفض معظم الجماعات الإرهابية مفهوم الدولة القومية مناديًّا بتحقيق هوية أممية تحت مسمى «عودة الخلافة الإسلامية»، فمثلًا مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا في رسائله حرص على الترويج لمفهوم الدولة الإسلامية على حساب مفهوم الدولة القومية.
[7] . للوقوف على الأزمة الاقتصادية في عهد الرئيس الجزائري الأسبق «الشاذلي بن جديد» ودورها في نشأة التنظيمات المتطرفة راجع الفيلم الوثائقي:
سنوات الشاذلي بن جديد، الجزيرة الوثائقية، 10 نوفمبر 2017، متاح على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=KrpUjHBm75w
[8] . الجهاد الأفغاني، مصطلح يشير إلى تطوع عناصر الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط للمشاركة في عمليات المقاومة المسلحة للاحتلال السوفييتي لأفغانستان، وقد انطلق الجهاد الأفغاني من منظور ديني قائم وجوب نصرة المسلمين في شتى بقاع الأرض.
[9] . دارين محمود، «6 سنوات على تصفية زعيم القاعدة.. قاتل بن لادن يروي تفاصيل عملية الاغتيال.. الجندي الأمريكي: كنت متحمسًا للحظة دخول منزله بعد عقد كامل من البحث عنه.. رصاصة واحدة شطرت رأسه نصفين»، البوابة نيوز، 1 مايو 2017، متاح على الرابط: http://www.albawabhnews.com/2505553
[10] . نبذة عن: أيمن الظواهري قائد تنظيم القاعدة، بي بي سي نيوز، 16 يونيو 2011، متاح على الرابط :http://www.bbc.com/arabic/worldnews/2011/06/110616_zawahri_profile
[11] . محمد بسيوني، الإرهاب الهجين: كيف يُشكِّل تنظيم «الرايات البيضاء» تهديدًا للعراق؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتفدمة، 21 فبراير 2018.