يصدر عن مركز سيمو - باريس
ad a b
ad ad ad

ما موقف السلطة من الصوفية في البلاد العربية؟

الإثنين 27/أغسطس/2018 - 05:35 م
المرجع
أبوالفضل الإسناوي- خبير دراسات الشمال المغربي
طباعة
تقوم العلاقة بين النظم الحاكمة والصوفية في البلاد العربية على مبدأ المنفعة المتبادلة، فقد حرصت السلطة منذ عشرات السنين على استقطاب الطرق الصوفية؛ من أجل الدعم السياسي وخدمة الاستقرار المجتمعي، وأحيانًا في مواجهة التيارات الدينية المتشددة.

أما بالنسبة لموقف الطرق الصوفية من الأنظمة العربية الحاكمة، فحددته إما مصالح مادية، متمثلة في مخصصات مالية من قِبل الوزارات المعنية بالشأن الديني، خاصة أن الطرق الصوفية في بعض الدول العربية تحكمها قوانين، وتدير شؤونها الحكومة من خلال مجالس منتخبة، وإما مصالح معنوية تتمثل في السماح لهم بالظهور في وسائل الإعلام الحكومية، وإقامة حلقات الذكر والموالد في المناطق العامة.

وإذا كانت العلاقة بين الطرفين قائمة على منافع متبادلة، يكون الطرف الأقوى فيها دائمًا السلطة، فلماذا لم تستفد الطرق الصوفية العربية باستثناء الصوفية المغربية من التوافق المعلن من قِبل السلطة معهم، منذ الثورات العربية في 2011؛ حتى تعيد تموقعها في الشارع العربي؟ وكيف يكون شكل واتجاه العلاقة بين الطرفين مستقبلًا؟
ما موقف السلطة من
مواقف متماثلة
شَكْلُ العلاقة بين الطرق الصوفية والقصور العربية في الفترة الأخيرة يكشف ثباتًا في مستوى العلاقة بين الطرفين منذ سنوات عدّة، بل يشير إلى تماثل وتشابه بين كل الدول العربية، وإن كان بعضها يحرص منذ فترة ليست بالبعيدة على تطوير أدوات العلاقة، لمبررات فرضتها ظروف ما بعد الثورات العربية في عام 2011.

ويمكن تأكيد تشابه وتماثل مستوى وشكل العلاقة بين الطرق الصوفية والقصور الرئاسية المتعاقبة، من خلال توضيح منطلقات وتطور العلاقة في 4 نظم عربية حاكمة، مختلفة من حيث عمر السلطة الحاكمة، وشكل النظام السياسي، ومرجعية الحزب الحاكم، وللتوضيح فإن الأمر يتطلب التطرق إلى علاقة الطرق الصوفية بالقصور الرئاسية في كلٍّ من مصر كنموذج تغيرت فيه النُّظُم الحاكمة أكثر من مرة، خاصةً بعد الثورات العربية، والمغرب كنموذج حكم مختلف، والسودان باعتبار مرجعية الحزب الحاكم إسلامية، إضافة إلى النموذج الجزائري الذي تميز بطول فترة حكم الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
ما موقف السلطة من
(*) النموذج المصري
في مصر لم يختلف الرؤساء كثيرًا منذ الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حتى الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، في شكل ومستوى العلاقة مع الطرق الصوفية، وإن كانت تختلف المبررات، فموقف الرئيس الأسبق حسني مبارك من الطرق الصوفية لم يختلف كثيرًا عن موقف الرئيس الراحل أنور السادات منهم؛ ففي فترة حكم السادات كانت الصوفية متربعةً على المشهد الديني المصري، فكان المسؤولون حريصين على حضور موالد الصوفية واحتفالاتهم.

ودَعَم الرئيس «السادات» مجلة التصوف، وكَتَبَ في أحد الأعداد افتتاحيتها، وفي فترة الرئيس «مبارك» تنوع دعم السلطة للصوفية ما بين دعم معنوي ومادي، وإن كان الدعم المادي محدودًا؛ حيث تم تفعيل قانون المجلس الأعلى للطرق الصوفية رقم 18 لسنة 1978، والذي سمح للصوفية بأخذ جزء من صندوق النذور التابع لوزارة الأوقاف.

كما حرص «مبارك» على تقوية الدعم المعنوي للطرق الصوفية، من خلال تغطية مؤتمراتهم واحتفالاتهم في التلفزيون المصري، وحِرْص قيادات الحكومة في ذلك الوقت على الحضور في جميع احتفالاتهم.

أما في فترة «عبدالناصر»، فكان موقف السلطة من المتصوفة أكثر صلابة؛ حيث أحكم النظام قبضته على المتصوفة للاستفادة منهم بطريقة محكمة، أما علاقة السلطة بالطرق الصوفية في الفترة الراهنة، فإنها نموذج متقارب مع العشر سنوات الأخيرة من حكم الرئيس مبارك، وإن كانت حدثت زيادة في عدد رموز المتصوفة الممثلين في مؤسسات الدولة، التي من أهمها مجلس النواب، ومن ثم تظل مقومات العلاقة بين الطرفين في الوقت الراهن قائمةً على دعم معنوي، من أجل إعادة إحياء الدور الصوفي في الشارع؛ بهدف تغلغلهم في مناطق الفراغات التي تركتها جماعة الإخوان.
ما موقف السلطة من
(*) النموذج المغربي
رغم تقارب وتشابه أدوات العلاقة بين النُّظم الحاكمة العربية والطرق الصوفية، فإن علاقة القصر الملكي المغربي بالطرق الصوفية هي الأكثر تطورًا، وتتحرك في الاتجاهين معًا، سواء الدعم المعنوي أو الدعم المالي المتمثل في منح الهبات، فالواضح أن العلاقة بين المتصوفة والقصر الملكي تطورت في عهد الملك الحسن الثاني والملك محمد السادس عن سابقهما، حيث يتعامل الملك محمد السادس مع الطرق الصوفية بمنطق القُوَى الأقوى في الشارع، التي تضمن استقرار العائلات ودعمهم للسلطة، وهذا ما جعله يدعمهم ماديًّا كما تدعم السلطة الأحزاب السياسية.

ويمكن القول: إن قوة علاقة القصر الملكي المغربي بالطرق الصوفية، ودعمه لها بقوة منذ أحداث ما يُعرف بالربيع العربي في 2011، أدى إلى نتائج سريعة وملموسة أكدها المراقبون في موقف الطريقة البودشيشية من دستور 2011، حيث طالبت جماهيرها بضرورة التصويت للدستور.
ما موقف السلطة من
(*) النموذج الجزائري
علاقة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بالطُّرق الصوفية تظل الأقوى بين الرؤساء الجزائريين السابقين؛ حيث إن دعم الرئيس بوتفليقة للطرق الصوفية جاء من منطلق انتسابه للطريقة الدرقاوية الهبرية، التي ينتشر مريدوها في ولاية تلمسان مسقط رأسه.

وكان «بوتفليقة» حريصًا على أخذ بركات المتصوفة بين الحين والآخر، فأكد مراقبون أن «بوتفليقة» اعتكف قبل الانتخابات الرئاسية 1999 بأحد الزوايا بولاية أدرار الواقعة بالغرب الجزائري، وقيل إنه أقام فيها لمدة أسبوع بعد وصية من شيخ زاوية بمدينة ندرومة الواقعة بتلمسان.

علاقة الرئيس «بوتفليقة» وتقرُّبه من الطرق الصوفية أدت إلى تغلغل ومساندة عدد كبير من القادة السياسيين وضباط الجيش والشرطة، إضافة إلى مساندة بعض قيادات حزبي السلطة (جبهة التحرير الحاكم وحزب التجمع الوطني) للطرق الصوفية.

وتنوعت أدوات دعم الحكومة للصوفية منذ تولى «بوتفليقة» السلطة ما بين دعم معنوي تَمَثَّل في استيعاب المتصوفة وإعطائهم مساحة أكبر للظهور في المجتمع الجزائري، أو دعم مادي تَمَثّل في قيام الحكومة الجزائرية بدعمهم ماليًّا، من خلال ترميم الزوايا الصوفية وتجديد مبانيها.
ما موقف السلطة من
(*) النموذج السوداني
العلاقة بين الطرق الصوفية والنظام السياسي السوداني بقيادة عمر البشير يبدو عليها دائمًا التقارب الحذر؛ حيث تخوفت الصوفية من المدِّ السلفي في السودان، واعتبرت دعم النظام لها في بعض الفترات بمثابة تهديد للمتصوفة، ورغم محاولة النظام السوداني إظهار موقف مرن من الطرق الصوفية، فإنها في كثير من الأوقات تعرضت لهجوم من قِبل السلطة، حتى منعت موالدهم، واعتقلت بعضهم.

ورغم اختفاء أدوات الدعم المادي أو المعنوي من قبل النظام للطرق الصوفية في الحالة السودانية، فإنه لوحظ في الفترة الأخيرة تغير إيجابي في موقف السلطة السودانية من الطرق الصوفية، بعد مبايعتهم مبكرًا «البشير» رئيسًا في انتخابات 2020؛ حيث التقى الرئيس في مارس 2018 ببعض مشايخهم؛ لشكرهم على موقفهم منه، وأعلن وقتها دعم النظام للمتصوفة باعتبارهم النموذج الإسلامي الأكثر اعتدالًا.
ما موقف السلطة من
مبررات واضحة
تقاربت مبررات دعم السلطة في المنطقة العربية للطرق الصوفية، باعتبارها التيار الأقوى في مواجهة الجماعات الإسلاموية، وباعتبارها لوبيًّا اجتماعيًّا قويًّا قد يعمل لصالح تلك الأنظمة الحاكمة من خلال الترويج لسياساتها، ومن ثم تضمن ولاء القبائل التي تعتبر مكونًا رئيسيًّا في بنية الصوفية العربية.

ففي مصر دعمهم الرئيس الأسبق مبارك؛ من أجل مناهضة أفكار الجماعات الإسلامية، وحفزهم الرئيس السادات؛ لمواجهة أي مخاطر قد تحدث من القوى الاجتماعية والسياسية التي اعتبرها في حينها مهددة للدولة والمجتمع، أما الرئيس عبدالناصر فحرص على دعمهم؛ من أجل الوصول إلى الجماعات والشرائح الدنيا في المجتمع الريفي، كما استخدمهم كركيزة أساسية في مناهضة الإخوان، وكوسيلة دعائية شعبية في مساندة سياساته الخارجية القائمة على القومية العربية.

أما مبررات الرئيس السيسي، في دعم المتصوفة فلم تختلف كثيرًا عن سابقيه، ولكن أهمها يتمثل في نشر الدين الوسطي في مواجهة التطرف والإرهاب.

وفي المغرب يدعمهم الملك؛ من أجل شرعيته في مواجهة الحركات المتطرفة، إضافةً إلى ترويج سياساته الداخلية والخارجية، باعتبارهم قوةً دبلوماسية روحية مؤثرة في المجتمعات المجاورة؛ حيث اعتمد عليهم في منافسة دول أخرى في منطقة الغرب الأفريقي، أما النظام الجزائري فتمثلت مبرراته من دعم الطرق الصوفية في خلق ظهير اجتماعي قوي حول النظام السياسي، إضافة إلى استخدامهم في مواجهة التيارات المتشددة التي أوقعت الجزائر في بحور من الدماء منذ 1992.
ما موقف السلطة من
مسارات محتملة
بصورة عامة يبدو أن الطرق الصوفية لم تضع خطة تطورها لتُوسع من مستوى علاقتها بالسلطة والاستفادة منها في المنطقة العربية، رغم أن الظروف الراهنة تخدمها في هذا الاتجاه، خاصةً بعد مواجهة الدول للجماعات الدينية التي تكفرها وتحاربها، وحرص القيادة السياسية في بعض الدول العربية على تطوير الخطاب الديني ليتناسب مع الوسطية والاعتدال، اللذين هما أساس منهاجها الفكري والمجتمعي، وبناءً على ما سبق يمكن ترجيح مسارين لا ثالثَ لهما لواقع الصوفي المستقبلي، الذي يحدد شكل ومستوى علاقة وموقف السلطة منهم في الدول العربية، خلال الفترة المقبلة، وهما كالتالي:

المسار الأول
استمرار الطرق الصوفية في الحضور الباهت ببعض الدول العربية، ومن أهمها مصر، المتمثل في استمرار الخريطة الصوفية العربية على شكلها الراهن خلال الفترة المقبلة، يؤدي إلى ثبات أيضًا في شكل العلاقة مع السلطة، فإذا لم تستفد الطرق الصوفية من المتغيرات المحيطة بها -بسب استمرار تشتتها في معظم الدول العربية، وعدم التنسيق فيما بينها واتباعها برنامج عمل واضحًا على الأرض- فإنه قد يتم تجاهلها من قبل السلطة في بعض الدول، أو يتراجع معدل الدعم أيًّا كان نوعه ماديًّا أو معنويًّا، باعتبارها فشلت في أول تكليفاتها المتمثل في سد الفراغ الذي تركته الجماعات الإسلامية المتطرفة.

وما يدعم هذا السيناريو، ما يحدث في مصر على سبيل المثال منذ ثورة 30 يونيو 2013؛ حيث إن خريطة انتشار الصوفية المصرية تغيرت إيجابيًّا بعد تلك الثورة، لكن هذا التغيير لم يدم، بل عادت أماكنها المركزية في القاهرة الكبرى، وتركت الشارع، رغم عودة القبليات والعصبيات التي تعد مكونًا رئيسيًّا فيها إلى دورها السياسي والاجتماعي.

المسار الثاني
التراجع في مستوى العلاقة بين الطرفين، ومن ثم يتقلص الدعم المادي أو المعنوي من قِبل السلطة في بعض الدول العربية للطرق الصوفية، وهذا السيناريو يعني أن تراجع الحالة الصوفية في المنطقة خلال الفترة المقبلة يؤدي إلى موقف سلبي من قِبل بعض السلطات في الدول العربية تجاه الطرق الصوفية.

ويرجح حدوث هذا السيناريو في بعض الدول وليس جميعها، ومنها مصر، خاصةً أن الدور الذي كانت تلعبه الصوفية بوضوح في مساندتها للسلطة وتبرير تحركاتها، ربما تكون قد افتقدته بصورة غير مقصودة خلال الفترة الراهنة.

إجمالًا يمكن القول: إن الظروف الراهنة هي الأفضل للطرق الصوفية؛ لكي تحسن علاقاتها بالنظم الحاكمة في المنطقة العربية، وتستفيد منها ماديًّا ومعنويًّا، خاصةً أن أغلب تلك الأنظمة وجهت للمتصوفة رسائل واضحة بضرورة تسكين المجتمعات، ومحاربة الفكر المتطرف.
"